د. نازك بدير*
يتعرّض لبنان إلى موجات متتالية من الأزمات التي أدّت إلى تغيرات جذريّة في حياة المواطنين، لا بل أجبرتهم على اعتماد أنماط هجينة في حياتهم اليوميّة، وقد يمكن القول إنّهم خلال الحرب الأهليّة لم يعهدوها.
هذه الفوضى المجتمعيّة المنظّمة انعكست على أنظمة العيش برمّتها، إذ قلّما بقي مشهد من مشاهد الحياة على حاله في الحيّز العام، وكذلك الأمر في الحيّز الخاصّ، ولا سيّما بعد أن غابت الفوارق تقريبًا بين الطّبقتين المتوسّطة والفقيرة، ودفَع تردّي الظّروف الاقتصاديّة العدد الكبير إلى ما دون خطّ
الفقر.
هذا التّشوّه الذي أصاب أعمدة البنية العميقة في هيكلية المجتمع لن يلبث أن يتبلور على السّطح على نحو أوبئة وأمراض تأخد أشكالًا متنوّعة منها له طابع نفسيّ، ومنها سيكون ذا طابع اجتماعيّ، ومن الصّعب التّنبؤ بتداعيات هذه الأمراض في المستقبل التي لا بدّ وأن تتفاقم مع ازدياد موجات القحط السّياسي والاقتصادي والأخلاقي على حدّ سواء.
شيوع الفوضى خلق حربًا من نوع آخر، قد يكون صاعق انفجارها مؤجلًا لكنّه حاصل لا محالة، بدأت طلائعه تظهر بين الفينة والفينة من اقتتال داخل حرم مستشفى، واحتراب أمام محطة وقود، وتواطؤ على القضاء، وحوادث قتل هنا وهناك.
لا قواعد تحكم العمل المؤسّساتي، وتاليًا لا وجود للثقة بين الطّرفين: بين "حاكم بأمره"، وبين الرّعيّة. انعدام الثّقة يكاد ينسحب على كثير من الشّرائح الاجتماعيّة ما ينذر بتدمير أواصر علاقات امتدّت لأجيال، تزعزعت اليوم على وقْع ضربات الخلل
العام.
ما أصاب الدّائرة الكبرى، انعكست ظلاله بطريقة تلقائيّة على الدّوائر الصّغرى في النّسيج اللبناني، فحلّ الشكّ في النّفوس، وسيطرت الضّغينة، وانعدمت الألفة. صحيح أنّ ما من مجتمع مثاليّ، لكن الواضح هو عُمق الهوة بين ما قبل" الأزمة" وما هو حاصلٌ اليوم.
ثمّة تحولات سريعة حصلت في تركيبة المجتمع تنذر بخرابه، وعدم إمكانيّة إصلاحه ما لم تُطرَح الحسابات الماديّة جانبًا، وتكون محاولة جادّة لإعادة المكانة الحقيقيّة إلى إنسانيّة الإنسان، وإلى المحبّة الخالصة، وضرورة التّرفّع عن الحسابات الشّخصيّة، ونبْذ الأنانيّة، سبيلًا للخلاص.
أكاديميّة لبنانيّة