خمس قراءات إيرانية للملف النووي

قضايا عربية ودولية 2021/05/03
...

 جواد علي كسار
 
اشتبكت السياسة الخارجية الإيرانية خلال العقود الثلاثة الماضية بملفين اساسيين؛ الأوّل هو القرار (598) الذي صدر عن مجلس الأمن عام 1987، وتوقّفت بموجبه الحرب العراقية - الإيرانية عام 1988. والثاني هو الاتفاق النووي الذي أُبرم عام 2015 بين إيران ومجموعة 5+1.
بديهي، لا يستوي الأمر بين الملفين لوجود فوارق مهمّة بينهما، يمكن أن نضع اليد على ثلاثةٍ من أبرزها؛ الأوّل بدا القرار (598) وكأنه مفروض على إيران من مجلس الأمن، لذلك ماطلت بقبوله حتى أذعنت له مُضطرّة بعد عام من التسويف، وذلك بعكس الاتفاق النووي الذي كان من الواضح أن إيران هي من سعت إليه، وعدّته من أكبر انتصاراتها في السياسة الخارجية. 
والفارق الثاني أن القرار (598) انتهى بثمرة عملية مباشرة هي وقف إطلاق النار لحرب السنوات الثماني، في حين أن مرارات الحصار وتوالي العقوبات، أكلت أحلى ثمار الاتفاق النووي، وحوّلته عملياً إلى غصص ومرارات، وصراع داخلي من حوله من قبل القوى السياسية الإيرانية، والفارق الثالث والأخير قد يبدو شكلياً، لكنه ينطوي برأيي على أهمية كبرى لها تداعيات خطيرة؛ فالقرار (598) لم يتجاوز عدا ديباجته عشرة بنود قصيرة، بعكس الاتفاق النووي عام 2015، المكوّن من بنود متداخلة، ونقاط مركّبة ينشقّ بعضها عن بعض، على امتداد 159 صفحة، ما يفسح المجال لقراءات تأويلية وتفسيرات لها بداية، لكن لا يمكن التنبؤ بنهايةٍ لها.
 
اختلاف المواقف
وملف السياسة الخارجية في ايران يثير اليوم كثيرا من الاختلافات وتعدد القراءات، حدّ التضادّ والتباين في المواقف، مثل ما هو عليه الأمر في الاتفاق النووي، فحول هذا الملف تختلف الرؤى بين الحكومة والمجلس النيابي، وبين أنصار الحكومة ومعارضيها، وبين الإصلاحيين والأصوليين، وبين أنصار المرشد خامنئي وأنصار الرئيس روحاني، وبين الحرس الثوري والحكومة، بل تخطّت الاختلافات دائرة هذه الثنائيات المتضادّة والمتباينة، إلى الاختلافات داخل التيار الواحد نفسه، فالإصلاحيون ليسوا على كلمة واحدة من الاتفاق، كما أن الأصوليين لم يتفقوا على موقف واحد منه، فمنهم من يؤيد الحكومة، ومنهم من يرفض إدارتها له، ومنهم من يُطالب بغلق الملف عبر انسحاب إيران من الاتفاق، وهكذا.
والآن إذا وضعنا جانباً دوافع الصراع السياسي القاسي والحاد بين هذه الأطراف في إذكاء الخلاف، وتركنا المناكفات الناشئة عن الصراعات الانتخابية، وما تمليه من تخندقات ونحن على مقربة من الانتخابات الرئاسية بدورتها الثالثة عشرة؛ إذا وضعنا كلّ هذه التراكمات السلبية جانباً، فيمكن لنا إيجابياً تفسير اختلاف المواقف على ضوء ملامسة الفوارق في الرؤية والتحليل، وهي تنطلق عند كلّ طرف ببُنية للاتفاق النووي، تختلف عنها عند الآخر.
وبهذا الشأن يمكن رصد عدّة قراءات، ربما أمكن اختزال الأبرز منها بخمس قراءات، تستبطن جميعاً استنطاق العقل الإيراني لمعرفة كيف يفكر في قضية تُعدّ الآن هي الأبرز، في السياسة الخارجية الإيرانية.
 
التنازلات القصوى
تتمثل القراءة الأولى بنظر فريق من الإيرانيين، بأن إدارة بايدن يلتحم معها الطرف الأوروبي، تطمح بانتزاع أقصى ما تستطيع من تنازلات إيرانية، مقابل رفع العقوبات وعودة أميركا إلى الاتفاق؛ إذ المطلوب من طهران وفق أنصار هذه القراءة، أن تقدّم تنازلات في مجالات ثلاثة؛ هي النووي والصواريخ والنفوذ الإقليمي لإيران.
بحسب هذه القراءة أرسلت واشنطن إشارات واضحة، بأن إدارة بايدن على استعداد للعودة إلى الوضع الذي كان عليه الحال بين أميركا وإيران، إبّان شهر كانون الثاني عام 2017؛ أي أواخر عهد أوباما، لكن الإيرانيين لا يرون هذه العودة مكسباً لهم، لأنهم يعتقدون بأن الانقلاب على الاتفاق النووي حصل على عهد أوباما نفسه، وأن إدارته هي أوّل من انقلب ضدّه، عبر مواقفها من مسائل فنية مثل «ألياف الكوربون» و»ميزان الأورانيوم» الذي يُسمح لإيران بتخزينه، كما أنها كانت أسرع من اتجه إلى زيادة حجم الالتزامات الإيرانية، والمطالبة بالمزيد في مجال الصواريخ والتواجد الإقليمي، حتى اشتهر عن أوباما قوله: «ما لم تلتزم إيران عملياً بروح الاتفاق، فلن تستفيد من المكاسب الاقتصادية» (خطاب لأوباما في مؤتمر الأمن الذري بواشنطن، بتأريخ 4 كانون الثاني 2016) وروح الاتفاق عند أوباما، هو وضع حلّ لقضية الصواريخ، والدور الإقليمي لإيران في المنطقة.
أما ترامب فقد كان واضحاً في دعوته لتصحيح الاتفاق النووي، وتعديله بما يضمن فرض قيود دائمة على البرنامج النووي الإيراني، وإدخال مسألة الصواريخ والدور الإقليمي في صلب الاتفاق، وإلا فهو الانسحاب، وهذا ما حصل.
بشأن إدارة بايدن وبحسب هذه القراءة، فقد استبدل فقط أسلوب العقوبات القصوى، بستراتيجية الضغوطات الذكية، ما يعني أن الإدارات الثلاث كانت ولا تزال تتبنّى في حقيقة الأمر موقفاً ستراتيجياً واحداً، يتلخص بضرورة أن تقدّم طهران أقصى قدر من التنازلات في النووي والصواريخ والدور الإقليمي، وأن الاختلاف بين أوباما وترامب وبايدن، هو اختلاف في التكتيكات والوسائل وحسب.
 
التنازلات المتبادلة
مبدأ التنازلات المتبادلة هو المنطق العميق الذي تستند إليه القراءة الثانية؛ هذه القراءة التي يمثلها في الداخل الإيراني حسن روحاني وحكومته لاسيّما وزير خارجيته المثير محمد جواد ظريف.
يمكن أن نستعيد المنطلق الرسمي لهذه القراءة من خلال خطاب روحاني في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بتأريخ 25 أيلول 2019، عندما خاطب الأميركان نصاً: «إذا كنتم تريدون المزيد، فينبغي لكم أن تقدّموا المزيد»، كأن روحاني يريد أن يقول لغريمه ترامب، إن بمقدورك أن تحصل من إيران على المزيد من التنازلات، في مقابل المزيد من رفع العقوبات، هذه التنازلات لا يمكن أن تكون إلا في نطاق الصواريخ والدور الإقليمي، بحسب تيار سياسي عريض في الداخل الإيراني، استفزته سياسة روحاني وظريف، ودفعته إلى مواقف نقدية عنيفة لحكومة حسن روحاني.
لكن نقد الداخل لم يثنِ روحاني عن المضي في هذه السياسة، إذ قال في اجتماع لحكومته بتأريخ 20 تشرين الثاني 2020، ما نصه: «بمقدور إيران وأميركا أن يقرر كلاهما ويعلنا العودة إلى ما كان عليه الحال في كانون الثاني 2017. وهذا المسار يمكن أن يكون حلاً كبيراً للكثير من المسائل والمشكلات، وأن يغيّر الوضع بالكامل، ومن ثمّ يمكن الاستمرار به في المراحل اللاحقة، وعلى مستوى مختلف المسائل»، إذ عُدّ هذا التصريح لروحاني، بأنه تأكيد مجدّد على استعداد إيران لتقديم المزيد من التنازلات، مقابل رفع العقوبات.
لقد مرّ الاتفاق النووي بمراحلٍ ثلاث، هي: التوافق الذي أُعلن عنه بتأريخ 14 تموز 2015، ثمّ إقرار الصيغة النهائية بتأريخ 18 تشرين الأول 2015 في عواصم دول الاتفاق، وأخيراً التنفيذ العملي الذي بدأ بتأريخ 16 كانون الثاني 2016، وما يراه الناقدون لهذه القراءة، أن أميركا على عهد أوباما، هي أول من انقلب على الاتفاق، ومن ثمّ فإن شعار العودة إلى أواخر عهد أوباما، الذي تريد طهران أن تدفع ثمنه بالمزيد من التنازلات، يزيد في الحقيقة من خسائر إيران، ما دفعهم إلى رفض متشدّد مصحوب بنقد حاد لروحاني وظريف.
 
خفض الالتزامات
يلخص أنصار هذا التيار قراءته؛ بأن على إيران أن تتخلى تدريجياً عن التزاماتها المنصوص عليها في الاتفاق النووي؛ فتزيد من أجهزة الطرد، وتدفع نسبة التخصيب، وتراكم خزين اليورانيوم، والألواح الكاربونية والماء الثقيل، وذلك بعد أن فشلت ما أطلقت عليها الحكومة بسياسة «الصبر الستراتيجي»، وهي سياسة لم تنجح برأي الناقدين ليس في إقناع أميركا بإلغاء العقوبات والعودة على الاتفاق وحسب؛ بل فشلت أيضاً في كسب الجانب الأوروبي للوقوف إلى صفّ إيران، ومساعدتها في تقليل الخسائر الناشئة عن الحصار، حينما اختارت أوروبا أن تقف إلى جوار أميركا في تأييد العقوبات.
مجلس الشورى الإيراني والقوى السياسية الأصولية التي توصف بالاعتدال في الداخل، هي من تبنّى هذا الخيار، الذي تمخّض فعلاً عن قرار البرلمان الزام الحكومة برفع نسبة التخصيب، وزيادة أجهزة الطرد وتطويرها، وتجاوز النسب المنصوص عليها في الماء الثقيل، وإعادة تنظيم العلاقة مع فرق تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى حدّ منعها من دخول مراكز النووي الإيراني، وذلك كله بالاستناد إلى المادّتين (36) و(37) من الاتفاق، اللتين تُتيحان فعل ذلك بحسب القراءة الإيرانية.
لقد سلكت الحكومة مضطرّة وبدون حماس، خطوات خجولة في هذا المسار، وأذعنت لقرار البرلمان، وضغوطات المرشد ومكتبه، والقوى السياسية المصطفّة وراءه، لكنها أعلنت مرّات لا تُحصى من قِبل الرئيس روحاني نفسه ووزير خارجيته ظريف وكبير المفاوضين عباس عرقجي؛ أنها على استعداد كامل لوقف خطواتها التصعيدية هذه فوراً، بمجرّد شروع أميركا بإلغاء العقوبات، وذلك في عملية متبادلة تجمّد فيها إيران خطواتها في هذا المسار، بقدر يتناسب مع رفع أميركا للعقوبات.
لم تنجح هذه السياسة في إجبار أميركا ودفعها لرفع العقوبات، بسبب عدم حماس الحكومة وضعف جديتها في التصعيد بحسب الناقدين لروحاني وفريقه، ما أدّى إلى بعث رسائل طمأنة للجانب الأميركي، جعلته يعتقد أن طهران غير جادّة في التصعيد.
 
 
بين منهجين
هناك قراءة في الداخل الإيراني، تذهب إلى وجود منهجين وفهمين بين إيران والغرب، يفضيان تلقائياً إلى سلوكين مختلفين في العمل السياسي، وبقدر ما يرتبط الأمر بالاتفاق النووي، فقد جاءت موافقة المرشد في الرسالة التي أطلقها بتأريخ 21 تشرين الأول 2015، مشروطة بتنفيذ مجموعة (5+1) لالتزاماتها التي وعدت بها.
ما يذهب إليه أنصار هذا التيار، أنه كان ينبغي لحكومة روحاني أن تتحرّك في تنفيذ التزاماتها، بقدر ما يتناسب ذلك مع التزام أميركا والأوروبيين بالاتفاق عملياً، وهذا ما لم يحصل.
أنصار هذه القراءة في الداخل الإيراني، يسجّلون ثلاث ملاحظات جذرية على الاتفاق؛ الأولى أنه سيّئ، إذ كانت إيران في موقع أقوى عند بدء الاتصالات مع أميركا عام 2013، وقد كان بمقدور الفريق التفاوضي أن يحصل على مزايا أفضل لو أتقن عمله، ويحفظ لإيران حقوقها النووية ومصالحها الوطنية بحسب تعبيرهم.
الملاحظة النقدية الثانية، أن نصّ الاتفاق يتّسم بالطابع التأويلي، بمعنى أن الطرف الآخر، وضع نصاً مركباً قابلا لقراءات عدّة، بحيث يستطيع تفسيره بما يحلو له ويلتفّ على الجانب الإيراني، الذي كشف فريقه عن غرارةٍ وضعف خبرة، وانطلى عليه المقلب الغربي.
الملاحظة النقدية الثالثة لهذا الاتجاه، تتمثل في الحصيلة العملية للملاحظتين السابقتين، فمع بداية التنفيذ في شهر كانون الثاني عام 2016، تمكّنت أميركا ومعها الطرف الأوروبي، من التملص من التزاماتهم في كلّ مرّة، متسلحين بتفسيرهم الخاص للاتفاق، وهو النص الذي صمّموه بأنفسهم ومرّروه على الفريق الإيراني، ما أدّى عملياً إلى خسارة إيران للمكاسب الاقتصادية، حتى بمقياس الاتفاق الأسوأ.
 
القراءة الأخيرة
يذهب أنصار القراءة الخامسة والأخيرة، الى أنه كان على إيران وببساطة شديدة، أن تُعلن خروجها من الاتفاق وانسحابها منه، بعد أن أعلنت إدارة ترامب خروجها منه، وهذا منطق المرشد الذي هدّد ليس فقط بالانسحاب من الاتفاق إذا انسحب منه ترامب، وإنما بحرقه أيضاً، يؤيده في ذلك تيار الجنرالات في الحرس الثوري، هؤلاء الجنرالات الذين كرّروا ولا يزالون، أن لا حاجة لإيران إلى الاتفاق النووي مع أميركا والغرب، لكن بيروقراطية الدولة، والتركيبة المعقدة للقوى السياسية داخلها، وصراع الرؤى في ما بينها، جعل موقف روحاني 
وحكومته هو الغالب.
الأكثر من ذلك، انتصر حتى الآن ما يُطلق عليه في الداخل، أسلوب «الفلسفة السقراطية» لظريف، وسياسة «الرسائل الإلكترونية» لعباس عرقجي، التي تقضي بمنح أميركا والطرف الأوروبي، الفرصة تلو الأخرى لكي يقرّروا مواقفهم براحة بال، وسط اطمئنان أميركي - أوروبي، بأن إيران ليست على استعداد للانسحاب من الاتفاق، وأنها متشبثة به بأي ثمن.
ما نترقّب حصوله من اتفاق أميركي - إيراني في فيينا، ينبغي أن يُنظر إليه من خلال هذه القراءات الخمس، وما تُمثله من خيارات ميدانية، ستجعل الملف النووي مفتوحاً على الدوام لقراءات تأويلية لا تنتهي، في مقاربة مشابهة تماماً لقصة العرب و»إسرائيل» مع القرار التأويلي (242).