عطية مسوح
برغم التقدم الذي تحقق في مجال حقوق الإنسان في بلدان كثيرة، وعلى أكثر من صعيد، وبرغم أن دساتير معظم الدول تنصّ على احترام تلك الحقوق، فإن عصرنا لا يزال عصر النضال من أجل رفع مستوى حقوق الإنسان وتوسيع دائرتها لتشمل جوانب جديدة، في الدول المتقدمة، ومن أجل كل هذه الحقوق، حتى البسيطة منها، في الدول الضعيفة المتخلفة، إذ تغيب أو لا تراعى إلا بحدود ضيّقة جداً تقارب حد الغياب.
ولعلّ إمعان النظر في أحوال حقوق الإنسان في الدول المتقدّمة اقتصاديّاً والمتطوّرة اجتماعيّاً، يوصلنا إلى أنّها تكاد تكون واقفة على قدم واحدة.
فالدساتير والقوانين السارية في تلك الدول تنصّ على صيانة الحقوق السياسيّة للأفراد والجماعات، كحقوق التعبير عن الرأي وتشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنيّ والانتماء إليها وغير ذلك، لكنّها لا تولي الحقوق الاقتصاديّة ما تستوجبه من الاهتمام، بل إنّ الكثير من الدول لا تكفل حدّاً مقبولاً من الرعاية الاجتماعيّة لمن لا يجدون عملا، وللمتقدّمين في السنّ. وإذا كان هذا الأمر موجوداً في الكثير من الدول ذات النظام الرأسماليّ، فإنّ حقوق الإنسان في الدول الاشتراكيّة التي عرفها القرن العشرون لم تكن أحسن حالاً. فلقد فصلت هذه الدول بين الحقوق السياسيّة للفرد وحقوقه الاجتماعيّة.
وابتكرت مصطلحاً مبهم الدلالة هو: الديمقراطيّة الاجتماعيّة، وقصدت به تأمين العمل والتعليم والرعاية الصحّيّة وغيرها، ولكنه في الحقيقة انطوى على تغييب الحقوق السياسيّة، فوقفت حقوق الإنسان على قَدم واحدة في النظامين السياسيين والاقتصاديّين الرئيسين اللذين هيمنا على عالمنا في القرن العشرين.
كان ذلك على المستوى الحقوقيّ القانونيّ، ولكنّ هذا المستوى ليس الوحيد الذي تُنتَقص فيه حقوق الإنسان، فثمّة مستوى آخر لا يقلّ خطراً وأثراً، وهو المستوى المجتمعيّ. فالمجتمع (جماعة وأفراداً) يسلب الإنسانَ الفردَ بعضَ حقوقه الطبيعيّة، ويحاكمه ويحكم عليه بما هو أشدّ من حكم المحاكم والقوانين. وسنأخذ – على سبيل المثال – موقف المجتمع من الخطأ، ومن المخطئ. واخترنا هذا المثال لأنه عام، إذ لا يمكن أن نتصوّر إنساناً لا يقع في الخطأ، أو جماعة بشريّة لا تُجانب الصواب في بعض مواقفها
وممارساتها.
يسعى الإنسان السويّ الواعي إلى تجنّب الوقوع في الأخطاء، ولا سيّما الأخطاء التي تعود عليه أو على غيره بالضرر والأذى. ولكنّه لا ينجح في ذلك أحياناً، نتيجة سوء تقدير، أو أنانيّةٍ تدفعه إلى تقديم مصلحته الخاصّة على المصلحة العامّة، فيقع في خطأ ما، قد يكون صغيراً يمكن تجاوزه وتلافي آثاره بسهولة، وقد تنحصر آثاره الضارة في شخص مرتكبه أو أسرته، وقد يكون كبيراً مؤذياً للآخرين فرداً أو أفراداً أو مجتمعاً، وعند ذلك يأخذ القانون مجراه، ويعاقب المرتكب عقاباً يتناسب مع الضرر الناجم عن خطئه.
ينال المخطئ جزاءه القانونيّ، ويعود بعد ذلك مواطناً عاديّاً يتمتع بالحقوق التي يمنحه إياها الدستور والقوانين، ولكنّه كثيراً ما يظلّ بنظر الناس ذلك المرتكب، وقد لا يتقبّله كثير من أبناء بيئته، فلا يساعده ذلك على أن يعود إنساناً طبيعيّاً، وقد يدفع به إلى الانكفاء والبعد عن الناس، ومقابلة النفور وعدم الثقة بمثلهما.
وثمّة ما هو أدهى من ذلك وأشدّ ضرراً، فالمجتمع يقيّد الفرد بقيود التقاليد الثقيلة، وقد يحكم على موقف أو تصرّف بأنّه خطأ، بينما لا يجده فاعله خطأ ولا يؤدّي إلى أذيّة أحد، بل قد يكون تصرّفاً حرّاً ومُريحاً ومنطقيّاً، ولطالما اتّخِذت مواقف ظالمة تجاه أناس لا سوء في تصرّفاتهم سوى أنّها غير تقليديّة، ولطالما اضطّر أشخاص للقيام بتصرّفات مخالفة لقناعاتهم، فقط لأنّ المجتمع التقليديّ يريد ذلك. وفي مثل هذه الحالة يقوم المجتمع بدور المستبدّ أو الظالم الذي يكبت حريّة التفكير والعمل، أو يكمل هذا الدور، ولعلّنا نقول - إذا نظرنا إلى المسألة نظرة أدقّ وأعمق – إنّ المستبد يستند في استبداده إلى هذا الموقف الاجتماعيّ التقليديّ ويَفيد
منه.
أمّا على المستوى الفرديّ فالكثيرون منّا ينظرون إلى أخطاء أصدقائهم أو المتعاملين معهم بعين واسعة، وإلى حسناتهم بعين ضيّقة تكاد لا ترى، كما أنّهم لا يرون أخطاء ذواتهم. ومثل هذه النظرة تخدش الصداقة أو تُعرّضها للاهتزاز، ولعلّنا نتذكّر في هذا المقام نصيحة الشاعر بشار بن برد في أبياته الرائعة العابقة بالموضوعيّة وحبّ
الإنسان:
إذا كنتَ في كلّ الأمور معاتباً صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبُهْ
فعِشْ واحداً أو صِلْ أخاك فإنّه مُقارِفُ ذنبٍ مرّة ومُجانبُه
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلّها كفى المرء نبلاً أن تُعَدّ معايبُهْ
قيل: إنّ الإنسان يتعلّم من أخطائه. وينطبق هذا على الأفراد كما ينطبق على الجماعات، وعلى العلماء وهم يُجرّبون ويخطئون ويصحّحون، وعلى الفرد في سلوكه الاجتماعيّ وعلاقاته بغيره، بل نقول إنّه ينطبق على مسيرة التقدّم الإنسانيّ، وقد أكّد هذه الفكرة المفكّرُ وعالم الاجتماع الفرنسيّ إدغار موران حين رأى أنّ الطريق إلى الحقيقة هو طريق تصحيح
الأخطاء.
إنّ قبول الآخر المختلف يعني حُسن التعامل مع صوابه وخطئه، انطلاقاً من أنّ الصواب والخطأ يمكن أن يوجدا معاً لديك ولدى غيرك. ومن ثم، فإنّ حقّ الإنسان في أن تكون لديه أخطاؤه هو حقّ طبيعيّ موضوعيّ، وواجبه تجاه نفسه، وواجبُ المجتمع تجاهه، هو أن يساعده على كشف أخطائه والعمل على الخلاص
منها.
باحث وكاتب من سوريا