ثامرعباس
قلما يصادف المرء مقالة أو دراسة تتعرض بالتحليل والتأويل لمفاهيم ومصطلحات من مثل (الثقافة) أو (المثقف) أو (الانتلجنسيا)، من دون أن تلفت انتباهه وتستحوذ على اهتمامه وتستولي على لبه، لأسباب أعزوها شخصيا إلى ظاهرة الجوع المزمن والتعطش المتوطن لدى إنسان المجتمعات المتخلفة في مجال حيازة الوعي والتمكن من المعرفة، للحد الذي يكون سريع التماهي مع مضامين تلك المفاهيم والمصطلحات وما تشي به من معاني الهيبة ودلالات التفوق، وخصوصا مع الشخصيات (الفاعلين الثقافيين) التي تتعاطى تلك الضروب من الإنتاج الثقافي والفكري.
ولعل ما يزيد من جاذبية تلك المفاهيم/ المصطلحات ويضاعف من إغرائها في السيكولوجيا الاجتماعية، تضمينها لطيف متعدد ومتنوع من الفاعلين الثقافيين في التعاطي من الأفكار والنظريات والمقولات – إنتاجا وتداولا- من مثل (فيلسوف، مفكر، عالم، أكاديمي، باحث، كاتب، صحفي)..الخ. والتي جعلت منها الكتابات والخطابات الرائجة تحيل إلى شخصية أثيرة محاطة بهالة من التقدير والإجلال، والتي طالما كانت مطمح كل إنسان يعاني الأمية الثقافية وقلة الاعتبار الإنساني، تلك هي شخصية (المثقف)!. أي بمعنى أن كل تلك المسميات الفكرية والتخصصات العلمية والمجالات الثقافية، باتت تحمل هذا اللقب السامي وتحيل إليه سواء أكان حامله يستحق ذلك أم لا يستحقه.
وعلى الرغم من شيوع هذه الظاهرة/ الإشكالية في الأوساط الثقافية فضلا عن الشعبية، إلّا أن هناك العديد ممن أشار إلى خطأ الركون إلى تلك المماثلة أو المشابهة، ومن ثم التأكيد على ضرورة التفريق والتمييز ما بين تلك المسميات والتخصصات والمجالات، لاعتبارات تتعلق بالدرجة الأولى بعمق الوعي وسعة المعرفة ومستوى العلم، مع الإلماح – قليلا أو كثيرا- لجهة الاعتبارات المتصلة بالمعايير الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية والوطنية، بل وربما في بعض الأحيان من دون شمولها وتضمينها. وهو ما يلقي بظلال الغموض والإبهام والتشويش على معاني ودلالات تلك المفاهيم والمصطلحات، أكثر مما قد يساعد على تبديها وإزالتها من مخزون الوعي الجمعي التقليدي، الذي لا تزال بنيته الرثة والهزيلة تعج بالمتناقضات والمفارقات من كل شكل ولون.
ونظرا لتواتر الكتابة بين الحين والآخر من لدن شخصيات ثقافية وأكاديمية مرموقة عن هذه المواضيع المهمة والحساسة، من دون أن يصار إلى تصحيح هذا المسار التقليدي المأخوذ بنزعة التعميم - حقا أو باطلا – ومن ثم إعادة الأمور إلى نصابها الفعلي والواقعي؛ لجهة تحديد من هو (المثقف) حقا وفعلا، وعلى أساس أية شروط ومعايير يستحق المرء أن يكون (مثقفا)، وما هي علاقته بطيف (الفاعلين الثقافيين) الآخرين الوارد ذكرهم، وهل تشكل القدرة على إنتاج الأفكار واجتراح النظريات دليلا كافيا لجعل هذا الفاعل الثقافي المتميز مشابها لأقرانه أولئك وبالعكس. نقول بالنظر لتلك المؤشرات السابقة وبناء على تلك الأسئلة المثارة، فقد ارتأينا – ومن باب الحق في المشاركة القائمة على النقاش العقلاني والحوار الإنساني – الإدلاء بدلونا والإسهام بقسطنا على شكل حلقات منفصلة ارتأينا أنها تغطي بمجموعها هذه الموضوعة المربكة وتلقي الأضواء على أبرز جوانبها؛ (متعلم – مثقف)، (كاتب – مثقف)، (أكاديمي – مثقف)، (مفكر – مثقف)، (فيلسوف – مثقف)، (تكنوقراطي – مثقف)، والتي هي بالأساس فصل مجتزأ من كتابنا الموسوم (أثريات الانتلجنسيا: الموروث التقليدي لدى المثقف العضوي – ظاهرة الهجنة الإيديولوجية أنموذجا). آملين أن تحقق الغاية منها وتعطي ثمار التعويل عليها، عبر إثارة النقاش الموضوعي وإخصاب الجدل الفكري، في بيئة ثقافية باتت تعاني الانغلاق والاختناق، وأضحت تميل إلى الجدب المعرفي والتيبس الفكري والتحجر العقلي.