علي المرهج
كثير منا يعرف نقد الفلسفة والاستخفاف بها عند من لا ينتمون لها، وقد يكون هؤلاء من الناس البسطاء، أو من أوساط المثقفين، بل وأوساط المتدينين والمتحزبين، ولكنهم ساعة أن يُكتب عنهم بأنهم الأقرب للوعي الفلسفي، تعجبهم هذه العبارة!
ما يُميز الفلسفة أنها تختط طريقاً لها خارج توصيفات التبعية في بناء الخطاب، وإن وقع بعض الفلاسفة بالاعجاب بفلسفة أرسطو وتقليدها، فهو تقليد محمود، ولماذا محمود لأنه تقليد لعقل نقدي يكشف عن معرفة جديدة وعلوم حديثة بالقياس إلى عصرها، فأن تُقلد الفلاسفة وتسير على نهجهم العقلاني، فذلك يعني أنك تسعى لبناء ذاتك وعقلك خارج توهمات الأيديولوجيا والعقائدية الموروثة ودوغمائيتها المعروفة.
التقليد في الفلسفة على الرغم من المآخذ عليه، ولكنه لا يشبه التقليد في الفقه ولا التقليد في التدين الأعمى والتحزب في الأيديولوجيا، لأن التقليد في الفلسفة يستدعي اعمال العقل وتفعيل حضوره في الأوساط الدينية المسيحية والإسلامية.مُحبو الفلسفة هم أولائك الذين تخرجوا من أقسام مناظرة للفلسفة في بعض توجهاتها، كأقسام علوم الفقه والفكر الديني الإسلامي والمسيحي، أو من درسوا في الحوزات، وبعض الأقسام أمثال علم النفس والأنثربولوجيا والاجتماع.فرحتنا بهم كبيرة لأنهم عرفوا قيمة الفلسفة بوصفها رفعة للعقل واثباتا لوعي المفكر به، تقرب للفلسفة الكثير منهم، وبعضهم تنكر لأصوله ومرجعايته الفكرية ليدعي هو أو من قرأ له بأنه مفكر، ليفرح أنه يُوضع في خانة الفلسفة ومريديها!.
أعدّ هذا قيمة مُضافة للفلسفة حينما يرغب بالانتماء لها من لا يمتلك جذوراً أكاديمية في دراستها، وهو انتصار للفلسفة على باقي التخصصات التي تقترب من الفلسفة من جهة المنهج أو من جهة الاشتراك في الموضوع.
أهلاً بكل من وجد في الفلسفة داراً له، لأن الفلسفة أم العلوم، وهم يعودون لجذر المعرفة العقلاني ويفتخرون، فلم لا نحتويهم بوصفهم من الأنصار والمناصرين.
ينتقدون الفلسفة، ويخشون من أطروحات الفلاسفة، وفي الوقت نفسه يتابهون بها حينما يرومون الدفاع عن متبنياتهم العقائدية والأيديولوجية على أنها عقائد وأيديولوجيا لا تعارض العقل وكل ما يبدو فيها معارضا للعقل وجب تأويله.الفلسفة ناطقة بأهميتها ليست على لسان الفلاسفة، بل على لسان من ينتقدوها ويتبنون الدفاع عن رؤاهم وفق منطق عقلاني هو من نتاج الفلسفة ذاتها.كل أيديولوجيا يعتز مفكروها بأن لهم فلسفتهم الخاصة، وكل عقيدة يفتخر أصحابها ومعتنقوها بأنها فلسفة للخلاص.مرة جاءني مقدم برامج يرغب باستضافتي للحديث عما أسماه “فلسفة الصلاة”، واعتذرت باجابة له أن الصلاة بحد ذاتها طقس عبادي لا تحتاج لفلسفة، وإن كان هناك من كتب عن موضوع بذات الاسم “فلسفة الصلاة”.سلفيون إتباعيون وهم أبعد الناس عن التفكير العقلاني الحر ولكنهم يتفاخرون بأن لهم فلسفتهم الخاصة!.
أيديولوجيون ومتحزبون ولائيون تابعون يدعون أن لهم فلسفة ورؤية للعالم!.ينتقدون الفلسفة ويأخذون أجمل ما فيها لينسبوه لرؤاهم الخلاصية في إدعاء امتلاك الحقيقة بوصفها فلسفة، ولكن الفلسفة فكر حر وبحث عن الحقيقة وليس إداعا لامتلاكها، وحينما يدعي فيلسوف ما أنه امتلك الحقيقة فقد ترك موقعه في الفلسفة، بوصفها تفكيرا حرا ليقع في حبائل العقيدة والدوغمائية والأيديولوجيا.
الفلسفة نحلة تمتص رحيق أزهار شتى وعسلها ليس شرطاً أن يكون من زهرة واحدة، لأنها حرية في التفكير تتحرك من جميع الجهات إلى جميع الاتجاهات، لتفتح أفقاً جديداً للمعرفة، وهي ليس كما الأيديولوجيا أو العقيدة، تقصر كل أبعاد الفكر لصالح بعد واحد يتقد أصحابها بحقانيته، وبأنه سيكون سفينة نجاتهم.
الأيديولوجيا والدوغمائية ممارستان اقصائيتان لتنوع الفكر، بينما الفلسفة ممارسة وتفكير حر لشم نسائم المعرفة بكل تنوعها.محبة الفلسفة عند الكارهين إدعاء للتعقل، وهي عند العقلاء حرية في التفكر.