علي جرادات
لعل من أكثر الشخصيات الإسلامية إثارة للجدل هي شخصية الإمام علي، والتي اختلف فيها المسلمون بين متطرف حد الألوهة، وناقد حد التكفير، فما هي هذه الشخصية التي أثارت كل هذا الاختلاف حولها في التاريخ الإسلامي؟. لقد عُرف الإمام علي عند التيار الشيعي كشخصية رفيعة المستوى، فهو العارف وخاتم الأولياء والإمام المعصوم، وبوابة المعرفة النبوية، لدرجة أن أقواله اتخذت عند هذا التيار صبغة العصمة، وهو الموكول إليه ميراث المعرفة المحمدية، وهو الذي عليه مدار الولاء والبراء، لدرجة أن العلويين أوصله للألوهية المطلقة.
بينما نجده في التصور السني واحداً من كبار أصحاب محمد، وله مكانته أيضاً لدى السنة كابن عم للنبي محمد وأحد اوائل من أسلم، وهو رابع الخلفاء الراشدين. أما الخوارج قديماً فقد أفتوا بكفرهِ ومروقه من الإسلام!.
فمن هذا الإنسان الذي امتلك كل هذا الحضور في الذاكرة الإسلامية، بل وتجاوزها للذاكرة المسيحية لدى العرب، وفاضت الدراسات عنه، وكتبت القصائد في مديحهِ، وتضاربت الآراء حول مكانته في
الإسلام ؟.
إن شخصية الإمام علي لا بد أن تدرس في إطار أوسع من الخلافات الطائفية والمذهبية الضيقة، التي أضرت به أكثر مما نفعت، وحصرته كل طائفة من المسلمين في تصور معين دون تجاوزه إلى أبعاد جديدة لهذه الشخصية، ليأتي مفكر مسيحي اسمه جورج جرداق ويتناول الجانب الإنساني العظيم لهذه الشخصية في موسوعته العظيمة (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) التي أبحر فيها في تحليل الجانب الإنساني والأخلاقي الاستثنائي
للإمام.
إن جمالية وعبقرية الإمام علي، هي في تمسكه بمبادئه الأخلاقية، وعدم تنازله رغم ما كان له من مكانة رفيعة في الوسط الديني للإسلام عن قيمه الإنسانية، وتفضيله الدائم أن يكون هو الجانب الرفيق والأكثر مرونة، إلا إذا كان هذا الموقف يتناقض مع جانب العدالة والحق.
إن الإمام كان بوابة العلم حقاً، فنهج البلاغة الذي يُنسب إليه، يدل على أننا أمام شخصية استثنائية في بلاغتها وعلومها وعمق نظرتها للأمور، لقد أسست هذه الخطب للمدارس المتعددة في ما بعد إسلامياً. لدرجة أن كثيرا من المدارس ذات التوجه الحر تأثرت بالإمام بشكل واضح، كالمعتزلة مثلاً، الذين كان واضحاً أنهم تلاقوا مع آل البيت واستفادوا من علومهم، كذلك التيار الصوفي الفلسفي، الذي لا يمكن أن تتغاضى عن حجم تأثره بمدرسة الإمام
علي.
إن مدرسة الإمام بنيت على مقولته المحورية والتي يمكنها أن تغير مفاهيمنا الدينية وعن علاقتنا مع الألوهة بشكل جذري، والتي يقول الإمام فيها “من عرف نفسه عرف ربه”، هذه المقولة التي تؤسس لجذرية فكرية في العلاقة بين الإله وربه، إذ إنه أعاد المعرفة بالإله إلى التعمق في معرفة بواطن النفس، وهذه المقولة التي سنجد أصداءها في كتاب المثنوي للرومي بشكل
صارخ.
إن نهج البلاغة الذي جمع مقولات وخطب الإمام، طافح بالرؤى الإنسانية الثورية، وتناول الكثير من القضايا بإطار وجودي عميق، جعل التقليديين يشككون في كثير من نصوص هذا الكتاب، لأنهم لم يتصوروا أن يكون هناك مستوى معرفي بهذا العمق والقدرة على تناول الأمور بإطار تعددي وإنساني يتجاوز المذهبية الضيقة التي ستدمر هذا الانفتاح الرفيع الذي نشهده في مقولات الإمام.
يبقى الإمام علي واحداً من أصوات الإنسانية العليا، التي لا بد من دراستها خارج أطرها الضيقة، وتناولها في بعدها الإنساني الثوري.
كاتب وباحث من فلسطين