قيام «داعش» وسقوطها.. هل وعينا الدرس؟

بانوراما 2019/02/12
...

 
باتريك كوكبرن
 
ترجمة: أنيس الصفار
 
 
يسر الكتّاب دائماً حينما يكتشفون ان لهم قراء في اماكن بعيدة لم تخطر لهم ببال، لذلك تخيل عظم دهشتي، وإن تكن دهشة مازجها الاغتباط، حين رأيت صورة لنسخة رثة من كتاب لي عنوانه “عودة الجهاديين” مترجماً الى اللغة الفرنسية. تلك النسخة تركها وراءه احد مقاتلي “داعش” قبل فراره، ملقاة وسط الاحزمة الانتحارية ومواد التفجير محلية الصنع، حين كان التنظيم ينسحب من آخر جيب له في محافظة دير الزور شرق سوريا.
ألفت ذلك الكتاب أواخر العام 2014 عندما كان تنظيم “داعش” في اوج قوته عقب استيلائه على مدينة الموصل واكتساحه اجزاء من غرب العراق وشرق سوريا. حينها تحدثت عن تلك الانتصارات وحاولت ان افسر كيف أتيح لحركة برزت من العدم ان تهز العالم بتأسيس كيان اسمته “الدولة الاسلامية” كان يتحكم إبان ذروة جبروته بنحو ثمانية ملايين انسان ويبسط نفوذه من مشارف بغداد حتى البحر المتوسط.
صورة الكتاب تلك بثها على موقع تويتر “كوينتن سومرفيل” مراسل “بي بي سي” في الشرق الاوسط حين كان يتنقل من مكان الى مكان عبر صحارى دير الزور مرسلاً تقاريره عن تلك المعركة التي بدت وكأنها آخر ما ستخوضه “داعش”. من المعتقد ان النسخة المترجمة من كتابي تعود لداعشي يتحدث الفرنسية، لأن كثيرا من متطوعي التنظيم قدموا من تونس والجزائر والمغرب وحتى من فرنسا نفسها، ولعله الان مع المحاصرين داخل الركن الاخير من سوريا.
 
أمل بالعودة
لكن السؤال هو: هل هذه هي حقاً الجولة الاخيرة في معركة “داعش”؟ دويلة التنظيم لم تعد لها اليوم بقعة ارض تسيطر عليها، فهل ستتمكن من مواصلة الحياة على هيئة فكر يلهم المتعصبين والمتشددين المتطلعين الى نهضة جديدة؟ هؤلاء لن ينسوا كيف اعلنت الولايات المتحدة خلال الفترة 2007 – 2008 ان تنظيم القاعدة في العراق (وهو البذرة 
الاولى التي تولدت منها “داعش”) قد لفظ آخر انفاسه وأودع قبره. لذا تأمل “داعش” ان 
تعود هي ايضاً الى الحياة بعد ان 
يستسلم اعداؤها الكثار للاسترخاء ويخف ضغطهم ثم لا يلبثون ان ينقلبوا على بعضهم بعضاً.
في كتابي ذاك كنت احاول ان افسر كيف استطاعت “داعش” خلال المرة السابقة أن تنجو من هزيمة ماحقة محققة، ولعل هذا هو ما اثار اهتمام المقاتل الداعشي ودفعه لقراءته على أمل العثور على مخرج يساعد حركته على النجاة في هذه المرة ايضاً. كنت قد كتبت ان تنظيم القاعدة في العراق لم يلفظ انفاسه تماماً كما توهم البعض، فلي اصدقاء عراقيون من رجال الاعمال كانوا يرغمون على دفع الاتاوات للتنظيم في الموصل حتى وهو في حضيض قوته. من المؤسف ان الجيش العراقي حينها كان مؤسسة تسودها الفوضى وينخرها الفساد، فكانت كتائبه “أشباحا” تدر المال الذي يصرف لجنود لا وجود لهم، والتجهيزات والوقود تنتهي الى جيوب ضباط منحرفين. وحين اخبرني بعض السياسيين العراقيين ان هذا الجيش لن يقاتل حسبتهم يبالغون، ولكنهم كانوا على حق.
كان العامل الاهم الذي فتح الباب على مصراعيه امام “داعش” هو الحرب الاهلية في سوريا بعد العام 2011، حين تمكنت الحركات الجهادية من التفوق على المعارضة المسلحة بسرعة تحت قيادة محنكين صقلتهم المعارك ارسلهم الى هناك تنظيم القاعدة في العراق. فالمتطرفون المتعصبون المنظمون جيداً، المستعدون للموت من اجل قضيتهم والمجربون في فنون القتال، ينجحون دائماً في الهيمنة على باقي شركائهم في المعركة حين يحتدم القتال. يومها شبّهت “داعش” بنسخة اسلامية من تنظيم “الخمير الحمر”، لأنها بالفعل، مثل نظيرتها الكمبودية، كانت تتعمد ارتكاب الفظائع بشكل ممنهج لكي ترعب الخصوم وتنزع معنوياتهم.
هل يمكن ان يحدث هذا مجدداً، أم اننا نشهد الفصل الاخير من كابوس “داعش” بعد إذ تلفي الجماعة نفسها محاصرة في زاوية داخل سوريا او مطاردة في متاهات الصحراء في العراق؟ ربما تنجو اعداد صغيرة منهم، والامر مرهون بما لديهم من خزين المعدات والرجال في مخابئهم السرية، لكن من الثابت تقريباً ان القوة المحتلة تبقى قادرة على زرع الهواجس في قلوب السكان المحليين وترويعهم. عصابات “داعش” قد تفلح في استغلال هذا الجانب، لأن الوحشية التي اظهرتها اكسبتها صيتاً يجعلها قادرة، بمجرد هجمات قليلة صغيرة هنا او هناك، على ترك الانطباع بأنها لا تزال حاضرة في الميدان.
خلال السنة الماضية كنت في بغداد عندما وقعت حوادث قتل واختطاف بشعة على الطريق الرئيس الممتد شمالاً الى مدينة كركوك. كانت تلك وخزة دبوس مقارنة بالمجازر التي ارتكبت طيلة العام 2014، ولكنها كافية ايضا لاحداث تأزم شديد في العاصمة حيث راح الاهالي يتحدثون عن احتمال ان تكون “داعش” قد ولدت من جديد.
 
تكرار الخطأ
أنا شخصياً لا اؤمن بإمكانية حدوث هذا لأن “داعش” لم تعد تمتلك مزية المباغتة مثلما فعلت في الماضي. ففي العام 2014 كانت المباغتة اعظم من حقيقتها لأن “داعش” كانت مستمرة منذ بعض الوقت في كسب المعارك والاستيلاء على الاراضي. كان من نتائج صعود” داعش” غير المتوقع قبل خمس سنوات ان ما من احد سيخطئ بعد اليوم في تقدير شدة خطرها، والجيش العراقي اليوم مختلف كلياً عن الجيش القديم، فهو قد استطاع ان يستعيد الموصل بعد أن قهر مقاومة “داعش” الضارية.
بإمكان “داعش” الان ان تنكفئ عائدة الى اسلوب حرب العصابات والهجمات الارهابية التي تخطف الاضواء، وقد تلجأ الى ذلك فعلاً لإثبات انها لا تزال ذلك العدو الذي يخشى بأسه. صور احزمة الانتحار المتفجرة المتخمة بكريات الحديد التي عثر عليها في دير الزور تثبت ان التفجيرات الانتحارية لا تزال جزءاً اساسياً من تكتيكات التنظيم، ولكن “داعش” لم تعد تمتلك من الموارد والوسائل ما يكفي لمواصلة تجنيد وتدريب وتمويل العمليات الانتحارية على نطاق واسع كما كانت تفعل من قبل “دولة داعش” عالية
 التنظيم.
ان احتلال تركيا للجزء الشمالي الشرقي من سوريا، بسبب اعتبارها المنظمات الكردية منظمات  ارهابية، قد يخفف الضغط عن التنظيم الارهابي. لكن الخطر الآخر هو ان يمتزج مقاتلو داعش والقاعدة السابقين مع وحدات الفصائل العربية المسلحة المدعومة تركيا، والتي تنفذ الآن عمليات تطهير عرقي بحق الكرد في محافظة عفرين السورية الكردية منذ سيطرة تركيا عليها قبل سنة تقريبا.
لقد ادركت الحكومات اليوم عموماً جدية خطر “داعش” ولن تسمح له بالنهوض ثانية. لكن الولايات المتحدة وبريطانيا والحكومات الحليفة لهما لم يتعلموا شيئاً من افعالهم الكارثية التي ارتكبوها في الشرق الاوسط وشمال افريقيا طيلة السنوات العشرين الماضية التي فتحت الابواب امام “داعش”. خلال تلك الفترة دأبت هذه الدول على شجب مواقف زعماء قوميين ودكتاتوريين اقوياء، مثل القذافي وغيره، معتبرة اياهم قادة غير شرعيين. كانت النتيجة هي الكارثة في كل مرة. فعندما أعلنت الحكومة البريطانية انها تعترف بالمجلس الثوري في ليبيا سنة 2011 باعتباره السلطة الحكومية الوحيدة هناك، سرعان ما تكشف ان الثوار لا يملكون قوة حقيقية او سلطة تتعدى ما قدمه لهم حلف الناتو فكان من الطبيعي والمحتم أن تنهار ليبيا وتنزلق الى مهاوي الفوضى الاجرامية.
نتقدم بالزمن سريعاً الى يومنا الحاضر لنقف على احداث فنزويلا خلال الاسبوع الماضي عندما اعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا ومجموعة من دول اميركا الجنوبية ان زعيم المعارضة “خوان غويدو” هو الحاكم الشرعي للبلاد وليس الرئيس مادورو. وقال وزير الخارجية البريطاني “جيريمي هانت” أن خوان غويدو، الذي لا يكاد يعرفه احد بعد، هو الشخص المناسب لتولي شؤون البلد والسير به الى الامام، رغم ان ما من سبب واضح يدعونا لمثل هذا الاعتقاد. على العكس من ذلك نحن نرى نفس التمادي الامبريالي الفج الذي انتج في الماضي دولاً فاشلة وفوضى جرت المآسي والويلات على افغانستان وليبيا واليمن وغيرها. من الواضح أن الزعماء في واشنطن ولندن لم يتعلموا من دروس قيام “داعش” وسقوطها إلا أقل 
القليل.