ظلال حرب باردة جديدة تخيم فوق أوروبا

آراء 2021/05/18
...

  لايل غولدشتاين
 
  ترجمة وإعداد: أنيس الصفار
تصاعدت السخونة مجدداً في منطقة شرق أوكرانيا، ويوحي المطلعون بأن عملاً عسكرياً عنيفاً قد يندلع عقب انتهاء ما يسمى “موسم الأوحال”، والمسألة مفهومة تماماً.. فالأميركيون سوف ينال منهم “إعياء أوكرانيا” وهم يرقبون عن كثب المؤامرات الغريبة التي اخذت تظهر لتربط سياسياً كل ما حاكته كييف وواشنطن على مدى السنوات الخمس الماضية ببعضه. إذ يتبادل الرئيسان “جو بايدن” و”فلاديمير بوتين” العبارات القاسية يمضي الرئيس الروسي في مراسيم الاحتفال بذكرى سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم، وهكذا لسوء حظ أوروبا تبقى أوكرانيا هي الأزمة المشتعلة التي تهدد بقلب “عهد السلام الطويل” الذي تمتعت به القارة رأساً على عقب، فرغم أن التوترات بين أوكرانيا وروسيا هي السبب الكامن وراء اغلب المشاكل التي يعاني منها الأمن الأوروبي فإن هذه العلاقة الثنائية المشوهة هي ايضاً التي ترسم المسار المؤدي الى الحلول المنطقية.
 
يدعي بعض المعلقين المرموقين في الأمن القومي الأميركي أن “الحرب الباردة الجديدة لن تشبه تجربة العالم للفترة 1945 – 1990، والسبب في رأيهم هو ان ميادين التنافس الجديدة كلها تقع في مجالي السيبرانية والتكنولوجيا العالية بدلاً من التركيز على التنافس العسكري والأسلحة النووية. لكن مثل هذه التقييمات تبدو غافلة عن التصعيد الثابت المستمر في مستوى التمارين الحربية التي كانت تجريها تشكيلات عسكرية كبيرة في كل مكان من اوروبا الشرقية طيلة السنوات الخمس الماضية. تصاعد اجواء التوتر على طول خط المواجهة بين القوات الروسية والأميركية بيّنة لا يخطئها النظر على امتداد جبهة جغرافية عظيمة تمتد من القطب الشمالي الى القوقاز، ثم توغل عمقاً حتى الشرق الأوسط.
قاذفات القنابل الأميركية، التي كانت تطير بانتظام على امتداد تخوم روسيا، صار يسمح لها الآن لأول مرة باتخاذ مجاثم في النرويج المجاورة لروسيا في “أعالي الشمال”. على غرار ذلك نفذت الغواصات الأميركية المتطوّرة زيارة للمنطقة مؤخراً في أعقاب أوسع تمارين يجريها حلف الناتو منذ نهاية الحرب الباردة. كذلك أخذت تنتشر في دول البلطيق مجدداً وبانتظام قوات أميركية تضم دبابات ومروحيات هجومية، وقد أصبح حضورها ثابتاً في بولندا. إبان ذلك تنفذ الطائرات المسيرة الأميركية الآن دوريات على امتداد الخاصرة الجنوبية الحساسة لروسيا وكذلك داخل أوكرانيا وعلى الحدود الخارجية للقرم. هل من غرابة إذن أن تجري روسيا في تزامن مع هذا كله خمسة تحديثات على الأقل لقواتها النووية الضاربة التي تشمل صواريخ بالستية عابرة للقارات وقاذفات قنابل وصواريخ وطائرات مسيرة وأسلحة نووية تكيتيكية 
أيضاً؟.
يفضل كثيرون من محللي الشؤون الدفاعية في واشنطن الحديث عن الأسلحة السبرانية اثناء ترويجهم لمشاريع جديدة تستخدم دفاعات سبرانية مطورة. رغم هذا تبقى غالبية الجماهير في جهل تام بخصوص مئات مليارات الدولارات التي تنفق لتغطية احتياجات سباق التسلح النووي الذي يشتد ضراوة، ناهيك عن القوات الجديدة التي يجري نشرها الآن في اوروبا. لكن هل لهذه الخطوات التصعيدية ما يبررها؟.
تؤكد التغطية التقليدية للشأن الأوكراني أن هذا البلد قد تعرض للغزو من قبل روسيا بعد أن أطيح بالرئيس الموالي لروسيا من منصبه على يد المحتجين الغاضبين في مطلع 2014، وهي الاحداث التي عرفت باحتجاجات يوروميدان. وبعد ان وقعت القرم بيد من وصفوا بـ “الرجال الخضر الصغار” شعرت موسكو أن ذلك ليس كافياً وقررت اقتطاع مساحات أخرى من اوكرانيا في منطقة الدونباس. رغم ان سياق الخبر ليس كاذباً بمجمله فإنه يغفل الاعتراف ببعض الفوارق الطفيفة المهمة. مثلاً أن الرئيس الأوكراني “فكتور يانوكوفيتش” قد جاء عن طريق عملية انتخابية ديمقراطية شرعية، وقيام الجموع الغاضبة بإسقاطه ليس الطريقة المثلى لإزاحة رئيس منتخب
 ديمقراطياً.
ذاكرة واشنطن لا تستطيع العودة كما يبدو الى أبعد من انتخابات 2016 المثيرة للجدل أو احداث يوروميدان في 2014، لكن هذا النقص في المعلومات التاريخية، المتغلغل لدى العاصمة الأميركية، هو الذي يغذي التوترات المتصاعدة التي تعيشها أوروبا الشرقية لسوء الحظ. على الستراتيجيين الاميركيين في الواقع ان يتأملوا كيف كان الأميركيون متعاطفين بقوة مع روسيا القيصرية إبان حرب القرم حين تصدت روسيا لفرنسا وبريطانيا الإمبرياليتين حسب تصورات ذلك الزمن. كذلك عليهم ان يتأملوا حقيقة أن القوات السوفياتية لو لم تدفع ذلك الثمن الباهظ في دفاعها عن قلعة سيفاستيبول حتى اواسط 1942 فلعلها ما كانت لتنتصر في ستالينغراد بعد ذلك. بكلمة أخرى إن تشبث الكرملين بالقرم بوجه العدوان النازي كانت له اهمية كبرى في انتصار الحلفاء في 1945. أخيراً فإن مفاهيم مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية لا تتضمن إدراكاً بأن الحدود الداخلية للاتحاد السوفييتي ضئيلة الأهمية، وقد أدى هذا الى جعل تأثيرها على سياسات ما بعد الحقبة السوفييتية محدوداً ايضاً. لا عجب اذن ان نجد قاعدة بحرية روسية في القرم بعد العام 1991 واستمرار بقائها هناك حتى 2014 وحتى الى الوقت الحالي. بكلمة أخرى ان وضع القرم، وكذلك وضع اوكرانيا عموماً، أقرب الى الحالة الرمادية منه الى حالة الاسود والابيض التي يفضل ان ينظر بها الأميركيون.
أخيراً ما الذي ينبغي عمله غير مراجعة احداث تاريخية القديمة؟ أولاً على الولايات المتحدة أن تخطو خطوات صريحة واضحة لاجتثات جميع مظاهر العداء العسكري المنتشرة في كل مكان، من القطب الشمالي الى القوقاز، وبعد ذلك تنظر لترى إن كان الكرملين سيقابل تلك الخطوات الهادفة لخفض التصعيد بالمثل. ثانياً على واشنطن ان تعيد إحياء ما يسمى “محادثات نورماندي” التي تجمع روسيا وأوكرانيا ضمن صيغة تفاوضية مع زعماء المانيا وفرنسا لأجل استقرار الاوضاع في شرق أوكرانيا. 
أخيراً على الدبلوماسيين الأميركيين ان يتأملوا صياغة صفقة كبرى تمنح أوكرانيا عضوية كاملة في حلف الناتو مقابل اعتراف دبلوماسي كامل بالسيادة الروسية على القرم. قد يكون تحييد أوكرانيا مسألة مفضلة بالنسبة للأمن القومي الأميركي، ولكن خطوة كهذه قد تكون ضرورية لإقناع كييف، وحشد الصقور في واشنطن، بالموافقة على توقيع تسوية أوسع تهدئ التوترات. أما بالنسبة لموسكو فإن من شبه المؤكد أن ترجح المكاسب الاقتصادية الكبيرة لديها على دواعي القلق الأمني. هذا الاتفاق “التلاقي في منتصف المسافة” قد يكون السبيل الوحيد امام أوروبا للنجاة من قبضة حرب باردة جديدة تشدد الخناق أضيق فأضيق.
 
عن موقع «ذي ناشنال إنتريست»