هكذا أنشدت لميعة عباس عمارة وهي تقترب من الثمانين منذ سنوات وهي اليوم تزيدُ على التسعين بعام, شاعرة عراقيَّة محبة للحياة وللعراق كتبت الشعر وأنشدته فصيحاً رائقاً وشعبياً أخاذاً.
في محلة الكريمات البغدادية الكرخية العريقة وفي العام 1929 ولدت الشاعرة لميعة عباس عمارة لوالد يحسن صياغة الذهب.
عرفت الكريمات التي تجاور نهايتها الجنوبية جسر الأحرار (مود سابقاً) بوجود تجمع شعبي مندائي كبير فيها, أبرز شخصياته الصائغ زهرون عمارة عم الشاعرة لميعة وقريب والد الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد أبن خالة الشاعرة والمولود سنة 1930 ببغداد.
وبملاحظة صورة ظهر فيها الصائغ عباس عمارة واقفاً يحمل الطفل عبد الرزاق بيده وتقف الى جواره ابنته لميعة وهي تكبر ابن خالها بثلاث سنوات يبدو تاريخ ولادة الشاعرة غير دقيق, وذلك يعني أنها ولدت عام 1927 حسب الصورة الملتقطة وحديث عبد الرزاق عنها في ذكرياته.
غادر والدها العراق الى مصر حيث أسس فرعاً لمحل الصياغة الذي كان له في بغداد ثم الى الولايات المتحدة حيث عمل في مهنٍ شتى وكان شاعراً وخطاطاً بارعاً اتصل بالشاعر المهجري ايليا أبو ماضي وصار صديقاً له وخطاطاً لمجلته (السمير) حتى وفاة أبي ماضي عام 1957.
كانت هذه العلاقة سبباً في اهتمام أبي ماضي بشعر الصبية لميعة ونشر قصائدها الأولى في مجلته.
كان رحيل عباس عمارة عن العراق سبباً في انتقال أسرة لميعة الى مدينة العمارة لفترة طويلة، لكنَّ لميعة عادت الى بغداد لتكمل دراستها الجامعيَّة في (دار المعلمين العالية) موئل نهضة الشعر العربي الحديث على يد طلبتها الأفذاذ: نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي.
كانت كليتنا (العالية) أيامها تجمع بدرا ولميعة التي كانت في مرحلة دراسية أقل وفي فرع اللغة العربيَّة، بينما كان بدر قد انتقل الى قسم اللغة الانكليزيَّة, لكنَّ العلاقة ظلت متوقدة بينهما حتى بعد أنْ تخرجت لميعة عام 1950, إذ قامت بزيارة بدر وعائلته في بيته (منزل الأقنان) في أبي الخصيب بعد ذلك نتيجة للعلاقة الرومانسيَّة الأخاذة التي كانت تجمعهما من دون أنْ يعول أي منهما على مستقبل لهذه العلاقة لأسبابٍ تتعلق بالأعراف والدين وتطلعات لميعة الجميلة الى عالم أكثر قبولاً من بدر ودمامته ونرجسيته.
في رأيي الشخصي إنَّ بدراً كان يبني حياته الشعرية على عالم أوسع وأكثر اتقاداً وتطويراً لأدائه الإبداعي، بينما كانت لميعة تعدُّ بدراً جزءاً من تاريخها وليس تاريخها الكامل.
عانت لميعة الكثير من الأنظمة السابقة بسبب تطلعاتها التائقة الى الحرية دون انتماء سياسي منظم, وفصلت من وظيفتها كمدرسة في الستينيات وعانت شظف العيش لكنها استطاعت الوقوف على قدميها في المدارس الأهليَّة حتى أعيدت الى عملها مكرمة لتصبح نائبة لممثل العراق في اليونسكو - باريس, ومن هناك شدت الرحال الى الولايات المتحدة حيث أصدرت مجلة (المندائي) التي قامت برئاسة تحريرها الى يومنا هذا.
كانت لميعة مهتمة بالتراث الشعبي وفولوكلور المندائيين وقد كتبت في مجلة التراث الشعبي وفي أعدادٍ متفرقة مقالات ودراسات عن علاقة اللغة المندائيَّة بالسومريَّة وعن جذور العامية العراقيَّة من السومريَّة والاكاديَّة, والمندائية التي هي لغة ديانتها وهي تشكيل حروفي ناصورائي آرامي كتبت به كتب الديانة المندائيَّة.
في سنواتها المتأخرة استكملت الشاعرة رسالة الدكتوراه التي أشرف عليها أستاذ الدراسات المندائيَّة د.قيس مغشغش حيث منحت الشهادة من قبل أكاديميَّة الدراسات المندائيَّة وكانت تحت عنوان: (الطعام عند الصابئة المندائيين وعلاقته بالصحة والجمال) وتقع الرسالة في خمسة فصول مهمة وعلى الوجه التالي:
• الديانة الصابئية وأتباعها
• طعام الصابئة المندائيين والحياة العامة
• أنواع الأطعمة وموادها وأدواتها
• الطعام بين الحلال والحرام وأطعمة الأعياد والمناسبات
• الحالة العامة للصابئة المندائيين تاريخياً وحتى الوقت الحاضر
وحظيت هذه الدراسة المهمة بعناية الباحثين في الدراسات المندائيَّة والتاريخيَّة والباحثين الاثنولوجيين وما زالت.
وللشاعرة سبعة دواوين هي: (الزاوية الخالية 1960، عودة الربيع 1963، أغاني عشتار 1969، يسمونه الحب 1972، لو أنبأني العراف 1980، البعد الأخير 1988، عراقية 1990).
وقصائد دواوينها تتميز بحب الطبيعة والحياة المتوهجة ونشدان الحب والعاطفة السامية والوقوف مع اتجاهات الحرية والقدرة على تعميق الألفة بين الناس وشجب الجريمة والدكتاتورية.
تقول لميعة في أحد من دواوينها (عراقية):
تمنيت شعري كتنوركم
تستدير الحروف به أرغفة
تغذي المساكين
كل الجياع على الأرصفة
ولكنَّ شعري وآسفاه
يظل حروفاً
ترف على الشفة المترفة
وفي قصيدتها (أغني لبغداد) تقول حانية على مدينة الحضارة بغداد:
هلا وعيوني بلادي رضاها
وأزكى القرى للضيوف قراها
بلادي ويملؤني الزهو اني
لها أنتمي وبها أتباهى
لأنَّ العراقة معنى العراق
ويعني التبغدد عزاً وجاها
وتستمر القصيدة حانية على البصرة الرائعة المعطاء والموصل الشامخة والعزيزة حيث العراق كل البساتين والخير والحضارة المتجددة.
وللشاعرة قصائدها العامية الطريفة المليئة بالعاطفة المشبوبة حيث تقول في موال (حبيبي):
حبيبي من وره الطوفة وأبص له
وأريده لو على خبزه وبصله
لعنة الله على الواشي وأبو أصله
وللميعة الرائعة عدة قصائد شعبية مليئة عاطفة ومرحاً ومنها قصيدتها (يا حلو) التي نظمتها عندما وقف أمامها شاب جميل القوام خجلاً وهو يغلط في الحديث والإلقاء فكتبت له وعنه:
يا حلو
يموصه بالفاعل تكسره
وترفع المجزوم والمجرور ما تقبل غلط
أغلط بكيفك.. ادلل
عدلت أذني على (لحنك) فقط
تروحلك فدوه القواعد والنحو
لو عرفتك من كبل
جا لحد بدرسي سقط
يتسع الحديث عن شعر لميعة وحياتها الاجتماعية والثقافية فهي سيدة مجتمع يأنس لها الأدباء والكتاب ويحترمون قدرتها الإبداعيَّة الرائعة.