عطية مسوح*
من يمعن النظر في طرق تفكير الناس في مجتمعاتنا العربية، وطبيعة اصطفافهم إزاء القضايا السياسيّة والاجتماعيّة المختلفة يستنتج أن جهود المفكرين التنويريين العرب في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين قد ذهبت سدى، وأن (هشاشة الوعي العربيّ) هي السمة الأكثر بروزاً في المنعطفات والأزمات واللحظات التي تتطلب مواقف تعبّر عن وعي مدني وانتماء وطنيّ. وأظن أننا لا نحتاج إلى أمثلة تؤكد صحة هذا الاستنتاج.
في تلك الفترة التي تُعرف بعصر النهضة انصبّت جهود المفكّرين والأدباء التنويريّين العرب على نشر الوعي الوطنيّ والقوميّ، والثقة بالعلم والتسلّح به في السعي إلى النهوض، وكانت الصراعات الفكريّة والثقافيّة تدور بين وعي حداثيّ جديد يريد المفكرون المنوّرون أن يرسّخوه في المجتمع وبخاصّة في أوساط الشباب ووعي تقليديّ ترسّخ في العمق المجتمعيّ وتمكّن من العقول وفرض طرقاً في التفكير تُجافي العلم وتعوّق النهوض. وكانت وسائل النهضويّين متنوّعة، أهمّها الصحافة التي انتشرت وعَظُمَ الإقبال عليها وتنامى تأثيرها وأخذ السياسيّون يعتمدون عليها ويحسبون حساباً جدّيّاً لمواقفها. وكان الأدباء والمفكّرون طليعة حقيقيّة في المجتمع العربيّ، كرّسوا شعرهم وأدبهم وتنظيرهم لقضيّة التنوير والنهوض بالوعي.
ومن يطّلع اليوم على مؤلّفات أحمد لطفي السيد ومحمد كرد علي وسلامة موسى وطه حسين وخالد محمد خالد ونتاج توفيق الحكيم ونجيب محفوظ والعُجيلي وأشعار شوقي وحافظ إبراهيم والزهّاوي والرصافي والجواهري وقبّاني وسواهم يجد أنّ قضيّة النهوض بالمجتمع كانت جوهر كلّ
نشاطهم.
ونتساءل اليوم تساؤلات موجعة: أين ذهب تأثير هؤلاء النهضويّين الروّاد؟ ولماذا نجد هذه الهشاشة في الوعي العربيّ؟ وهل هي مقتصرة على الوعي أو إنّها هشاشة شاملة؟
يتعامل الكثير من الباحثين مع هذه التساؤلات وما يتّصل بها تعاملاً جدّيّاً، وتظهر لديهم اجتهادات ويصلون إلى إجابات متعدّدة في كلّ منها جانب أو جوانب من الصواب.
ولعلّ أهمّ ما يلامس الحقيقة هو القول إنّ السبب الرئيسيّ في تبدّد تأثير الفكر النهضويّ التنويريّ، وفي هشاشة الوعي، هو ضعف حامله الموضوعيّ، أي ضعف البرجوازيّة الوطنيّة في البلدان العربيّة التي شقّت طريق، أي مصر وبلاد الشام والعراق. وجوهر هذا الرأي هو أنّ الحداثة مرتبطة بالنظام الاقتصاديّ الرأسماليّ، وأنّ الوعي الحداثيّ التنويريّ هو وعي مطابق لحاجة المجتمع إلى علاقات اقتصاديّة واجتماعية جديدة واستنطاق التجربة الأوربية يدلّ على ذلك.
ولكنّنا نقول إنّ هذا الحامل الموضوعيّ في البلدان العربيّة كان ضعيفاً وليس غائباً كلّيّاً، أي إنّ ضعفه كان نسبيّاً وبالتالي، كان يمكن أن يُسهم الفكر النهضويّ في تقويته وإضعاف خصومه. في مثل هذه الحالة تكون علاقة الوعي بالواقع وضرورات التطوّر علاقة جدليّة، يُسهم كلّ منهما في تقوية الآخر.
وثمّة من يردّ عدم رسوخ الأفكار النهضويّة التنويريّة في مجتمعاتنا إلى كونها (مستوردة) جاءت في كتابات المنوّرين العرب نتيجة للتأثّر بالفكر الغربيّ. ولكنّ في هذا القول ما يجافي طبيعة الفكر، فوصف فكرة أو أفكار بأنّها مستوردة لا يعيبها، فالفكر كالهواء، ينتقل دون اكتراث للحواجز، ودون رخصة استيراد، وعيب بعض أفكار النهضويّين التنويريّين العرب ليس في أنّهم (استوردوها) بل في أنّهم لم يقوموا بتبييئها (تكييفها مع البيئة) بالمقدار الكافي لجعلها مقبولة شعبيّاً.
لن أتوقّف طويلاً عند هذين العاملين اللذين أسهما في هشاشة الوعي وضعف تأثير الفكر التنويريّ فيه، فقد كتب الباحثون في ذلك كثيراً، لكنّني سأتحدّث عمّا لم يتطرّقوا إليه أو يبحثوا فيه، وهو علاقة التنوير بالعقلانيّة. فالتنوير لا يكون راسخاً إلاّ إذا استند إلى فكر فلسفيّ عقلانيّ، وهذا ما تحقّق في المجتمعات التي واصلت تقدّمها. كانت المرحلة الأولى في الحداثة الأوربّيّة على الصعيد الفكريّ المواكب لنهوض الرأسماليّة هي مرحلة (العقلانيّة)، وجوهرها نقل مركز اهتمام الفلسفة من القضايا الماورائيّة (الغيبيّات) إلى الواقع، أي إنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض. وكان أعلام العقلانيّة كبار الفلاسفة في أواخر القرن السادس عشر وفي القرن السابع عشر: بيكون، ديكارت، هويز، سبينوزا. لقد وضعت العقلانيّة الفلسفيّة أساساً راسخاً لحركة تنويريّة كبيرة جوهرها نشر معطيات الثقافة على نطاق شعبيّ واسع، وإدخالها في الوعي العام، وكان فرسان هذه الحركة كبار مفكّري زمنهم: لوك، مونتسكيو، فولتير، روسو، وعدد كبير من المبدعين في حقل الأدب والفنّ.
أمّا في الفكر العربيّ الحديث، فقد اطّلع مفكّرو وأدباء عصر النهضة على الفلسفة العقلانيّة والثقافة التنويريّة معاً، وعملوا، سعياً لنهوض المجتمع، على نشر فكر التنوير وثقافتة قبل ترسيخ العقلانيّة، أي إنّهم زرعوا تنويريّاً في أرض غير محروثة عقلانيّاً، فجاءت نتائج التنوير ضعيفة غير راسخة في الوعي الشعبيّ. إنّ عدم استناد النشاط التنويريّ على قاعدة عقلانيّة جعل نتائجه التي بدت واسعة الانتشار في فترة من الفترات سطحيّة وقابلة للاختراق، وقد اخترقتها في ظرف معيّن مفاهيم تقليديّة غير عقلانيّة تجلّت بمواقف عائليّة أو طائفيّة أو إقليميّة ضيّقة.
حين نضع اليد على هذا السبب، نفتح باباً لتعميق الوعي النخبويّ والشعبيّ، وتعميق أثر التنوير في العقول والتحليلات والمواقف. أن المهمة الفكريّة الملحة في زمننا، هي الاشتغالُ في العقلانيّة التي لم يكتمل طرحها، وإلصاقُ الفكر بالواقع، ونشرُ قيم المواطنة، فيكون التنوير حصيلة طبيعيّة لأن أفكار المنوّرين في عصر النهضة ما تزال قابلة للإحياء والاستحضار.
*كاتب من سوريا