داكوتا وود
ترجمة وإعداد: أنيس الصفار
هل تحسب إدارة بايدن والاغلبية الديمقراطية في الكونغرس أن كبار منافسي أميركا مستعدون لإمهالها حتى تعيد ترتيب اوضاعها الداخلية وتتأكد من امتلاك جيشها قدرة الدفاع عن مصالحها؟، هذا هو الانطباع الذي يخرج به المرء حين يراقب سلوكها المالي؟. تقترح الادارة زيادة الانفاق الدفاعي للعام 2022 بنسبة 1,7 بالمئة فقط، وهذا لا يكفي لمواجهة التضخم الاقتصادي، ولكنها في الوقت نفسه تطالب برفع الانفاق المحلي بنسبة 16 بالمائة. علاوة على ذلك فتح باب جديد للانفاق منذ شهر تشرين الثاني بمبلغ 3 ترليونات دولار تقريباً لمواجهة نفقات جائحة كورونا.
هناك أيضاً مبلغ قيد النظر لا يقل عن 2 ترليون دولار للاسابيع المقبلة سيوجه لتغطية خطط اخرى تتعلق بالوظائف واحوال الأسرة الأميركية. هذه الخطط ستعود على المجتمع الأميركي بالمنافع في مجالات عديدة والنفقات ستتحملها الحكومة الفدرالية وهي اموال باهظة، في حين يبقى الانفاق لمواجهة الاخطار الخارجية الحقيقية التي قد ترسم نهاية أميركا الحتمية واطئاً للغاية.
يحب اليسار كثيراً الحديث عن سياسة أميركية خارجية “خالية من القوة العسكرية”، ربما لاعتقادهم أن البراعة الدبلوماسية ستكون كفيلة بكسب الوقت المطلوب حين تفرض الحرب نفسها، أو ان الولايات المتحدة وحلفاءها ستبقى أمامهم دائماً فرصة لخوض جولة ثانية في أي صراع حين تفشل الأولى في تحقيق النتائج المطلوبة.
في الحروب لا يمكن طبعاً الأخذ بلعبة “الفائز بجولتين من ثلاث هو المنتصر”، فإذا ما انجرت الصين والولايات المتحدة الى الحرب، بسبب تايوان مثلاً، وانتصرت الصين فمن المستبعد ان تسمح للولايات المتحدة بفسحة لالتقاط انفاسها واعادة حشد قواتها ثم الاعداد لمواجهة جديدة. والشيء نفسه يقال عن إمكانيات المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران إذا ما هاجمت الأخيرة اسرائيل او التصدي لروسيا إذا ما قررت هذه عزل حلفاء أميركا في البلطيق عن باقي انحاء اوروبا.
عند المنازلة أما ان تكون مستعداً او لا تكون، فإن لم تكن مستعداً لن تجد امامك من بدائل للتعويض عن فشلك العسكري. الأمر هنا يتباين تماماً مع ما يجري في عالم الأعمال إذ نرى طول الوقت شركات تنهض وأخرى تتهاوى، ولكن آثار الفشل لا تكاد تتعدى دائرة المعنيين بالامر مباشرة، فهناك دائماً شركات اخرى تسد الفراغ والموظفون المسرحون سيعثرون على وظائف جديدة والزبائن يتحولون الى وجهات أخرى، بعدها يعيد السوق تنظيم نفسه ثم تستأنف الحياة مسارها.
نرى هذا في نواحي الحياة كلها تقريباً: الرياضة.. الكنائس.. السياسيون.. الناس العاديون عندما يبتلون.. في الحياة الخاصة ومجال الأعمال هناك دائماً بدائل وفرص لبدايات جديدة، وفشل شخص او مشروع لا يعني فشل الحياة العامة بأكملها او قطاع الاعمال كله. تلك خسائر محدودة المدى لا تهدد وجود المجتمع الأكبر.
أما في حالة الحرب فالأمر مختلف كل الاختلاف، عندما يكون البلد والشعب وحياة الناس وأرزاقهم معلقين بكفة ميزان. الجيش القوي يعزز الفعل الدبلوماسي ويحفظ أمن الروابط الاقتصادية ويلزم الاعداء المحتملين حدودهم كما يرفع مستوى الرفاه المدني، وأي تقصير بحق الجيش معناه تقبل مزيد من التهديدات لهذه الميادين
جميعاً.
ليس المقصود ان يطلق الانفاق العسكري بلا قيود، فهذا ايضاً له اوجهه ومحدداته. تقدير حجم القوة العسكرية التي يحتاج اليها بلد معين تحدده المصالح الجدية لذلك البلد والمخاطر التي تتهدده وما يقتضيه الأمر لصد تلك المخاطر. الحاجة للقوة العسكرية، من حيث التعداد والحداثة والجاهزية، تتصاعد مع تنامي الاهداف المراد بلوغها.
اوضاع الجيش الأميركي اليوم تسير الى انحدار، وليس مرد ذلك افتقار المقاتلين الى العزيمة او المهارة بل لأن معظم معداته، من سفن وطائرات ودبابات وغير ذلك، تشكو قدم العهد ونقص العدد. الكم الأعظم من تلك المعدات اشتريت في عقد الثمانينات او التسعينات، وسلاح البحرية تقلص حجمه الى نحو نصف ما كان عليه قبل ثلاثين عاماً، أما سلاح الجو فإن ساعات الطيران التي يحرزها طياروه كانت ستجعلهم غير مؤهلين للعمل ابان حقبة الحرب الباردة. لقد حقق الجيش تقدماً ملحوظاً من حيث جاهزية وحداته، ولكنه ببساطة لم يعد يمتلك من الوحدات ما يكفي للقيام بالمهام المطلوبة منه. القول نفسه ينطبق على فيلق مشاة البحرية “المارينز” الذي اختار تقليص حجمه توفيراً للمال من اجل تطوير قدراته التي ستقتضيها الحرب
المقبلة.
كل هذا ما كان ليمثل مشكلة لو لم تكن الولايات المتحدة بمواجهة تهديدات حقيقية، ولكنها كذلك حيث انفق منافسوها على مدى السنوات العشرين الماضية على جيوشهم الأموال واشتروا المعدات الجديدة وطوروا تقنيات على ارقى المستويات، وهناك تطور مشهود تكشفه تمارينهم ومهاراتهم الجديدة.
حتى حلفاء الولايات المتحدة سمحوا لجيوشهم بأن تذوي الى حدود أفقدتها القدرة تقريباً على تقديم العون في حالة نشوب ازمة كبرى. فقد اعلنت بريطانيا مؤخراً انها ستعيد تنظيم جيشها باعطاء الأولوية للمجالات السبرانية والفضائية والعمليات الخاصة، وهذا لا يبقي لها سوى جيش هو الأصغر حجماً منذ 1714 وسلاح بحرية لا يمتلك اكثر من 17 سفينة حربية.
كذلك ألمانيا. فعندما كانت الحرب الباردة تقترب من نهايتها دفعت المانيا الغربية بخمسة آلاف دبابة قتال رئيسة لصد التهديد الآتي من الشرق. اما اليوم فإنها لا تملك اكثر من 300 دبابة. كما أن ألمانيا وفرنسا اليوم لا تمتلكان القدرة على إدامة أية عمليات جوية ما لم تمدهما الولايات المتحدة بالوقود جواً وبقائمة كاملة من الذخائر المطلوبة.
هذه كلها أشياء محزنة ولكنها لا تغير الحقيقة وهي أن أميركا سوف تضطر للاعتماد على امكانياتها العسكرية المجردة في حالة نشوب صراع حقيقي، وهذه الامكانيات ليست سوى شبح حائل من تلك التي واجهت بها التحديات على نطاق عالمي آخر
مرة.
خفض الانفاق الفدرالي في الجوانب المحلية يمكن موازنته دائماً من خلال خيارات السوق حين يتدخل الاقتصاد وروح المبادرة وقدرة المجتمعات المحلية لخلق البدائل، ولكن حين يتعلق الأمر بالدفاع عن البلد لن تكون هناك بدائل فأما ان يمتلك الجيش الأميركي الحجم والجاهزية والمعدات التي يحتاج اليها لكسب الحرب أو لا يمتلكها، والتبعات في الحالين لن تكون عادية.
عن موقع “ذي ناشنال إنتريست”