الانحدار التراكمي للبحث العلمي في الدول النامية

آراء 2021/05/22
...

  ميثم عبد الحسين بندر
أدت نتائج البحث العلمي منذ القدم حتى وقتنا الحالي على اختلاف طرقها ومنهجها إلى تحسين واقع المجتمع الصحي والعمراني والاقتصادي والثقافي الخ.. وقد كرس العديد من الباحثين حياتهم وافنوا أعمارهم في سبيل إيجاد حلول لمشكلات كانت مستعصية وغير قابلة للحل آنذاك، حتى أن هنالك باحثين عرّضوا حياتهم لمخاطر كبيرة أودت بحياة البعض وسببت أمراضا لآخرين، كل ذلك بسبب شغفهم بالمعرفة وإصرارهم على إيجاد حلول لمشكلات كبيرة نجحوا أخيرا بحلها، أو اختراعات سهلت وأنارت حياتنا بعد أن كانت معقدة ومظلمة. 
  
ونتيجة لجهود هؤلاء الأفراد الموهوبين والمتفانين وإصرارهم على المضي قدما والتنقيب لإيجاد بصيص امل، على رغم كل تلك العتمة آنذاك وقلة الموارد وفي بعض الأحيان انعدامها، نجح هؤلاء الثلة القليلة من الأشخاص المتميزين بإيصال المعرفة لنا بجهود فردية غير مدعومة في اغلب الأحيان والأمثال على ذلك كُثر.
ولو دققنا النظر قليلاً كانت منهجية البحث العلمي آنذاك، هو حل المشكلة الموجودة فعلا وليس اختراعها، أي ليس صياغة المشكلة أو صناعتها «بطريقة أكاديمية فنية» كالطريقة السائدة حاليا في البحث العلمي، التي يستخدمها الكثير من الباحثين على اختلاف مراتبهم العلمية، وذلك بدءاً بمرحلة الدراسات الأولية وصولا للدراسات العليا وانتهاءً ببحوث الترقية العلمية، ومن هنا بدأت مشكلة البحث العلمي في بلداننا العربية ولنقل الشرق أوسطية، حيث اصبح البحث العلمي هو البحث عن مشكلة لحل وليس البحث عن حل لمشكلة مع شديد الأسف حيث انحدر مستوى البحث العلمي إلى أسوأ ما يمكن!.  ونرى في الدول المتقدمة انهم لا يستخدمون طريقتنا، وذلك اكثر ما يدهشني، علما إنها طريقة فعالة في إنتاج الكثير من البحوث، حيث إن لدى باحثينا القدرة على الإنتاج المستمر للأبحاث، فضلاً عن إمكانية تصديرها، واغرب ما في الأمر هو عدم استغلال الدول المتقدمة لأبحاثنا! غير اني وبعد أن سألت ذوي الخبرة والاختصاص، وجدت أن الدول المتقدمة لا تستخدم أبحاثنا على كثرتها، وإنما تقوم هي بالبحث كما فعل أسلافنا، ولكن «بطريقة قديمة بالنسبة لنا طبعا» حيث إن هنالك مراكز بحثية – ولكي اقرب الصورة للقارئ- تشبه إلى حد كبير أصحاب الحرف والمهن، وكلاً في مجاله واختصاصه، تقوم هذه المراكز بانتظار المشكلة، أي: إن لدى هذه المراكز زبائن، فعندما يأتي احد الزبائن حاملا مشكلته لغرض حلها، ينتظر في طابور حتى يأتي دوره، هذا بالنسبة للزبون، والزبون هنا لا اقصد فرداً يعاني من مرضٍ أو عاهة مستعصية مثلاً وحسب، بل قد يكون الزبون مؤسسة أو مصنعا أو مستشفى أو دولة ما تعاني من أزمة اقتصادية أو صحية أو انهيار اقتصادي أو فشل في مشروع عمراني الخ.. تبدأ هذه المراكز البحثية في الدول المتقدمة بعرض هذه المشكلات على الجامعات والمؤسسات الرائدة في البحث العلمي، وأيضا على باحثين أكفاء مشهود لهم بالخبرة في تخصصاتهم (وليس جبراً أو منّة أو عن طريق المحاباة والعلاقات الشخصية).
وعندما يتقدم احد الباحثين لعرض خدماته هنا تبدأ عملية الاتفاق بين المركز البحثي والباحث بشأن مناقشة سبل الحل ومقدار التمويل والمدة الزمنية المقدرة للانتهاء من البحث، ويكون مقدار التمويل والمدة الزمنية حسب نوع البحث وتعقيده، ومثال ذلك ولكون الموضوع ما زال حديثا (اختراع لقاح للجائحة)، كون المشكلة عامة، كما حصل مع «كورونا فايرس» أخذت تتنافس شركات ومعامل الأدوية في إنكلترا وأميركا والصين وروسيا ومؤخرا الهند برعاية منظمة الصحة العالمية، ومُولت الأبحاث بملايين الدولارات أو اكثر، وقد يرى البعض أن «الدول المصدرة للبحوث» قد عجزت حتى عن تصدير النفط في تلك الفترة! وحقيقة لا اعرف ما السبب؟ ولا اعرف أيضا لماذا تذكرت هذا البيت من قصيدة أبي الطيب المتنبي:
وبسبب التعمد في عدم ادراك المنهجية الحقيقية للبحث، وهو إيجاد الحلول للمشكلات وليس العكس. ونحن هنا ليس بصدد أن نقول بان الحياة بخير، وان المشكلات معدومة، والبحث العلمي اصبح ترفا، بل على العكس فالمشكلات الموجودة في دولنا، ولله الحمد كثر. 
ولنعد لموضوعنا الرئيس حيث لا بدّ أن نقف، ولا بدّ أن يقوم شخص ما في مكان ما بالتفكر والمراجعة وإيجاد سبيل لحل المشكلات الكثيرة، والتي يحتاج لها جيش من الباحثين، والكل على يقين بان هنالك باحثين لديهم قدرات ومهارات يعتدّ بها.
و(لكن) إلا إن (لكن) هذه يجب أن نقف عندها كثيرا، حيث إن من بين أولى العقبات التي سوف تواجه هؤلاء الباحثين هي:
1 - انعدام المقدرة على العمل بروح الفريق، وذلك للأسباب الآتية:
أ- الاتكالية وعدم نكران الذات وحب الأنا.
ب- الكبر وعدم التواضع حيث إن البعض يقلل من شأن الآخرين ولا يرغب بالعمل معهم.
ج- ثقافة العمل الفردي المترسخة لدى البعض.
د- ثقافة «سر المهنة».
2 - عدم توفير البيانات الضرورية للبحث العلمي من قبل أغلب المؤسسات، خصوصا المؤسسات الحكومية، إلا أن اكثر الأمور دهشة أن المؤسسات تدعي (الشفافية!).
3 - إخفاء الكثير من مؤسسات الدولة المشاكل الجمة والكثيرة التي تعاني منها بحجة إن ذلك يقلل من كفاءة الإدارة في حل تلك المشكلات وعدم إعلانها للرأي العام أو المختصين.
4 - استفادة بعض إدارات تلك المؤسسات من المشكلات، وذلك لاستنزاف موارد الدولة وهدر أموالها لمصالح تلك الإدارات الشخصية.
5 - الحافز المادي والمعنوي الذي تعجز المؤسسات البحثية أن توفره للباحثين.
6 - عدم توفر الأدوات اللازمة للبحث العلمي في اغلب المراكز البحثية، هذا إن وجدت مراكز بحثية أصلا.
7 - انعدام التمويل المالي للبحث العلمي، بينما نرى في اغلب الدول المتقدمة هنالك ميزانيات مفتوحة لتمويل 
الأبحاث.
8 - لا توجد ثقافة لدى المؤسسات الحكومية والأهلية بأن حل المشكلات يكمن بإسناد ذلك إلى المراكز البحثية والى باحثين أكفاء من ذوي الاختصاص.
9 - اعتماد المراكز البحثية - أو سمها ما شئت- على التمويل الحكومي الذي يعاني من انعدام التخصيصات المالية، وان وجدت فتنفق في غير مواضعها في الغالب.