الجوع «بيتكلم عربي»

آراء 2021/05/22
...

 محمد الحداد
ستة أيام من بين أيام الخلق الثمانية فصلت بين لسعة جوع وبين الغضب! ستة أيام كاملة أحصيتها في ما خطه قلم زكريا تامر في قصة «الذي أحرق السفن»، ولكن من خلق أخيراً كان هو سيد الموقف إلى الأبد. في اليوم الأول خلق الجوع، في اليوم الثاني خلقت الموسيقى، في اليوم الثالث خلقت الكتب والقطط، في اليوم الرابع خلقت السجائر، في اليوم الخامس خلقت المقاهي، في اليوم السادس خلق الغضب، في اليوم السابع خلقت العصافير وأعشاشها، في اليوم الثامن خلق المحققون برفقتهم رجال الشرطة والسجون والقيود!
 
الآن، بعدَ تلك المسافات الشاسعة بين جوعِ الشعبِ وغضبهِ لنا أن نسأل من دونِ أن نُحمّلَ المثقفَ ما لا يطيق فنقول: ما هو دورهُ أثناء ذلك كله؟ وإلى أيِّ مدى كان هذا الدورُ منسجماً مع فداحةِ الأحداثِ التي يمرُّ بها مجتمعهُ؟ ولكي لا أغمط من حقِّ المثقفِ ودورهِ شيئاً في غمرةِ البحثِ عن أجوبةٍ لهذين السؤالين، أعترفُ أنَّ أغلبَ المثقفين لم يعتكفوا يوماً واحداً بعيداً عن همومِ مجتمعاتهم، بل راهنوا دائماً على تغييرهِ ما وسعهم ذلك وحاولوا ربط الوجدان العربي بسموِّ منابعهِ الأولى، أملاً بالوصولِ إلى أهدافِ الشعوبِ المشتركة، لكن بجانب ذلك لو جازَ لنا أن نؤرخَ ابتداءً مما سميَ بثوراتِ الربيع العربي وما تبعها أيضاً، فقد كان واضحاً أن ثمة طبقية ثقافية سسيولوجية برواسب برجوازية متعالية بغيضة، ظلت ترفعُ عقيرتها الذميمة وسط المجتمعات التي مرَّ بها قطار التغيير، طبقية قسمتْ الشارعَ في ذروةِ انفعالهِ القومي والسياسي والثقافي في تلك البلاد إلى نظرتينِ أمّيتينِ، ظلتْ احداهما تتربصُ بالأخرى: أميةٌ ازاءَ أمية. الأولى أميةُ المثقفين بأحوالِ رجلِ الشارعِ البسيط، يقابلها أمية هذا الأخير بطبقةِ المثقفين من دون أن ننسى أنهُ في مرحلةٍ ما رُفعَ الوصولُ إلى الجماهير شعاراً عجيباً لا يشبههُ الا طموح الوصول لسكانِ كواكب بعيدة.
نعترفُ مجدداً أنَّ الكثير من المثقفينَ تقدموا صفوفَ الغضب الثائر مَعية كل طبقات الشعب من السياسيين ورجال الأحزاب والفنانين ورجل الشارع البسيط، لكن النظرَ إلى تلك المواقف الايجابية قياساً إلى النتائج لم يغيرْ من نمطيةِ الصورة الجاهزة المرسومة للمثقفِ مسبقاً، فهو يكادُ لا يحسنُ شيئاً مثل الكلام، وهو في ذلك بائعٌ مجانيٌّ إن لم يجدْ مَن يشتري منه! تلاحقهُ كظلهِ صورةُ المثقف المنبري التي تستنسخُ تهافتها من صورةِ شاعر القبيلة التي ما زالت إلى الآن عند كثيرٍ من الأدباء أنفسهم، تعكسُ صورةً مقيتةً رغم الاحترام الذي تلقاهُ في أذهانٍ أخرى. يرسمُ ذلك بوضوحٍ صورةَ انقسامٍ طبيعيٍّ بين صفوف المثقفين أنفسهم بين معارضٍ للسلطة ومؤيدٍ لها، صورةٌ تمليها خلفياتُ تناحرٍ واختلافٍ ايديولوجي مستديم.
وهو معارضٌ مدمنٌ أيضاً حتى على نفسهِ لأنهُ ببساطةٍ لا يريدُ أن يبدوَ كساعةِ كيكغارد العاطلة التي يوحي لفظ أسمها فقط بوظيفتها الغائبة رغم أنها تدقُّ مرةً واحدةً في اليوم، لكنها رغم ذلك لا تشيرُ إلى الوقتِ الصحيح! يحبُّ الجدلَ دائماً ويمارسُ الاحتجاج بشهيةِ ذلك الأخرس الذي يمتلئُ رأسهُ بالكلمات رغم المسافة الشاسعة، التي تفصلُ دوماً بين صوته العالي وآذان الشعب ويكادُ صراخهُ لايقتربُ من تخومِ أي فعلٍ مؤثر، الّا مستأسداً فوقَ أوراقٍ يُخبئها بين الحيطان والأسِرّة أو في منافٍ تسلبهُ كلَّ شيء إن حالفهُ الحظ لوصولها!
عندَ الأزماتِ والحروب وحينما يحمي الوطيس يسحبُ ذلك المثقفُ ذيلهُ من الشارعِ ويدلفُ معتكفهُ المظلم لدراسةِ الموقف عن بعد! وربما خرجَ علينا بالفرجِ بعدَ غيبةٍ مُباركةٍ بقصيدةٍ أو روايةٍ من أدبِ الظروفِ الطارئة، وهو لا يكفُّ في البحثِ عن وطنٍ مسروقٍ دوماً من بين جوانحهِ، ولا يتعبُ من تهشيمِ أصنامٍ لا يتورع من افتراضها ان لم يجدها الّا صنماً أوحداً لا يبجلهُ سواه: ذاته المقدسة!
وهو أيضاً مستلبٌ حقيقيٌّ لفرطِ ما اضطرمَ داخلهُ من أدبٍ انهزاميٍّ أخفاهُ عقوداً طِوال، ابتداءً من ضياعِ الأرضِ وحتى ضياع ماءِ الوجه ولم يضفْ إلى رصيدهِ إلّا أدب النكسة والسجون واليأس! ومن المؤكد أن مثقفاً يستوطنُ كلَّ تلك الأمراض لن تنحني السياسة لهُ رأسها أبداً.
بعد ذلك كله لا ينتظر أحدٌ قطعاً من هذا المثقفِ أن يحملَ مسدساً أو مدفعاً أبداً، وإلّا صُنفَ وجيّرَ على الجهات، ربما يُعبّأ البارودَ ويهيئهُ لكنهُ لا يطلقهُ أبداً، والمفارقة اللافتة أنهُ بسببِ غبائهِ الشديد بدروبِ السياسة فهو غالباً أول ضحايا هذا البارود حينما تقطفُ يدُ السياسة ثمارَها ويجثمُ الحاكمُ بأمرِ الله على البلادِ والعباد، فيكونُ جلدهُ أولَ المسلوخين إن لم يفر بهِ طبعاً، لكنهُ أحياناً مغبونٌ حقاً بدورهِ المخبوء، فبالكلمة هذهِ قد تُصنع الثورات وإن لم تقطف الثمار غالباً إلا بأثرٍ رجعي بعد أن تطبخَ على نارٍ هادئة، كما حصلَ في كلِّ الثورات وحركاتِ التحرر ابتداءً من مصر الخمسينيات وحتى اليوم.
في الغالبِ هو متفرجٌ بامتياز، في قصة «تحت المظلة» لنجيب محفوظ يواظبُ الطرفانِ «الشعب والسلطة» على التفرجِ من زاويتي نظرٍ مختلفة: الجماهيرُ لا تملكُ جواباً لما يحدث رغم هولِ الفظائع التي يرونها أمامهم في الشارع، لكنَّ اللافتَ أن الشرطيَّ رمز السلطة المتربصة دوماً هو صاحب الموقف الحاسم والأخير حينما يطلقُ الرصاصَ عليهم جميعاً بتهمةِ التآمرِ على السلطة! قطعاً أن تفرجاً كهذا ليس انتظاراً فعالاً، بل محض تربصٍ لن يُثمرَ أبداً، انتظارٌ قبلَ الأزمةِ وفي أوجها أيضاً، هو ليسَ انتظار فيلسوف أفلاطون بعد خروجهِ من ظلامِ السجن إلى نورِ الحرية، ذلك الانتظار الغريب الذي أعادهُ من فورهِ إلى السجنِ مجدداً لأنهُ رفضَ الحرية حتى يخرجَ جميعُ مَن في السجن.
على العكسِ من ذلك كلهِ يأتي دورُ الجماهير، صوتُ الشارع بسيطاً واضحاً هادراً وحاسماً أيضاً، فمنذ أن وقفتْ وإلى الأبد عربةُ بو عزيزي رغمَ هديرها المدوّي الذي لم يصمتْ إلى الان، كنا نظنُّ أن الكراسي الأزلية لن تُنخرَ إلّا بقدرٍ الهي حتى ثبتَ لنا العكس، هذهِ النغمة الشعبية كانت مُغيبة عقوداً طويلة ولفرطِ خوفنا صَدّقنا كذبة أنها لن تعود.
الشعبُ إذا جاعَ لا يتذكرُ من قديمِ الشعرِ أو جديدهِ إلّا هذين البيتين: بِيضُ الصفائحِ لا سودُ الصحائفِ في مُتونِهنَّ جَلاءُ الشكِّ والرَيب. و: إذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياة فلا بدَّ أن يستجيبَ القدر!
لكنَّ البشرى قد تأتي مع الألم، في «نبي» جبران بَشّرَ «المصطفى» بهذا الألم نفسه، بألمِ الموتِ في انفلاقِ بذرةٍ خبيئة ظلامِ ترابها، أملاً بضوءِ الشمس فوقَ التراب ليصلَ حُلمُ البذرةِ بحقيقةِ الشجرة!
أخيراً.. أتى الدرسُ معكوساً خلافاً للتوقعاتِ حاملاً معهُ البشرى، إذ أخذت الجماهيرُ مكانها المتقدم عندَ المنصة وقالت كلمتها بيضاءَ واضحة، مباشرة ومدوّية، فأنصتَ لها الجميع لأنَّ صراخَ الجماهير هذا لم يبتعدْ عن الجُرحِ إلّا مسافة الجُرحِ نفسه، وهو درسٌ مجانيٌّ ثمين رغمَ أنهُ لم يخرجْ من جيوبٍ ممتلئة، لكنهُ أتى هذهِ المرة بأفصحِ اللغات، لغة الجوع الذي «بيتكلم عربي»، لغة الخبز، وما أرخصهما وأوفرهما معاً!