ديفد فون دريهل ترجمة: أنيس الصفار
كتب «أمبروز بيرس»، الذي شكلت الحرب القاسية الى حد كبير منظوراته المريرة، قائلاً: «الحرب هي طريقة الله لتعليم الأميركيين الجغرافيا». فعندما كان بيرس جندياً في الحرب الأهلية شهد المجازر التي وقعت خلال معارك كان هدفها الأهم هو السيطرة على الانهار، وبوسعك اليوم ان تستقرئ هذه الحقيقة من اسماء جيوش الاتحاد الكبرى، مثل جيش أوهايو وجيش باتوماك وجيش تينسي وجيش كمبرلاند. حتى المعركة من اجل العبودية كانت هي الاخرى معركة للحفاظ على حرية التجارة بين الشرق والغرب عبر نهر أوهايو، وبين الشمال والجنوب عبر نهر المسيسبي.
السؤال المحدد للقرن المقبل هو ما إذا كان الاميركيون سيتمكنون من استيعاب دروس الجغرافيا، قبل ان تجرهم الى صراع كارثي مستقبلي محتمل آخر، والمكان الذي عليهم البدء به هنا هو بحر الصين الجنوبي فعبر هذا الممر المائي المزدحم يمر ما يقارب ثلث حركة الملاحة العالمية، وهذا يعني ما يقارب خمسة ترليونات دولار سنوياً، ومن مصائد سمكه الغنية يحصل العالم على ما يقارب 10 بالمئة من حجم الصيد السمكي السنوي العالمي. كذلك يمثل هذا البحر شريان الحياة لعدد من الاقتصادات الكبرى على مستوى العالم، ومن بينها الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان واندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة. عند حافته الشرقية يربط بحر الصين الجنوبي آسيا بالاميركتين، اما حافته الغربية فترتبط بالشرق الأوسط وأوروبا. يلخص «دانيال ييرغن»، مؤلف كتاب «الخارطة الجديدة» الأمر بالعبارة التالية: «مياه مائجة بالمخاطر».
«باي ميتشو»، وهو جغرافي صيني عاش في مطلع القرن العشرين، لا يجهل القوة التي تمثلها الجغرافيا ويقدرها حق التقدير. يقول ميتشو باسطاً وجهة نظره: «تعلم الجغرافيا إنما الغاية منه بناء الأمم». في العام 1936 قدم البرهان على صواب مقولته تلك من خلال نشر خارطة لبحر الصين الجنوبي. فعلى امتداد الخطوط الساحلية المنظورة، التي تؤشر الحدود الوطنية، تضمنت خارطة «باي ميتشو» خطاً نظرياً مؤلفاً من تسعة قطاعات يمتد بمحاذاة السواحل ولكنه يوغل مبتعداً الى الخارج ليضم الجزر والحيود المرجانية ومناطق المياه الضحلة المتناثرة في ذلك البحر، ومن خلال الادعاء بعائدية هذه تتأكد السيطرة على المياه المحيطة بها.
هذه الهجمة الخرائطية الخاطفة، التي صارت تعرف باسم «خط القطاعات التسعة»، أصبحت سياسة الصين الرسمية، حيث تدعي بكين سيادتها على البحر بأكمله تقريباً وبفضل النمو الاقتصادي الباهر الذي تشهده الأمة اخذت الصين تكسب القوتين البحرية والسياسية الضروريتين لدعم ادعاءاتها.
على مدى السنوات الاثنتي عشرة الماضية كان بحر الصين الجنوبي مسرحاً لاحتكاكات لا تنقطع تقريباً. في شهر كانون الأول، وإذ الأميركيون منشغلون بعطلاتهم ومحاولاتهم لاختطاف الانتخابات، كانت الصين توجه اتهامات غاضبة الى الولايات المتحدة بانتهاك مناطقها وتتبجح بأن بحريتها قد تمكنت من اجبار مدمرة أميركية، هي «يو أس أس جون أس مكين»، على مغادرة المياه المتنازع عليها الى الشرق من فييتنام، وهي مياه تدعي الصين السيادة عليها.
تشير الدلائل كلها الى ان الحادثة المذكورة كانت مختلقة من الاساس، فالمدمرة مكين انما كانت تمارس ما يطلق عليه «عمليات حرية الملاحة» التي تحاول الولايات المتحدة عن طريقها فرض حقوق المرور للسفن من مختلف الجنسيات لا الأميركية فقط وذلك بالابحار عبر المياه الدولية. يؤكد مسؤولون كبار في البحرية الأميركية ان السفينة لم تجبر على المغادرة بل كانت تمر مجرد مرور.
بيد ان التوقيت والنبرة الصارمة اللذين انطوى عليهما الادعاء الصيني يحملان نذر خطر مستقبليا. فبينما الأميركيون منشغلون بأزمتهم السياسية الداخلية، التي نجم عنها بعد ذلك بأيام هجوم غوغائي على مبنى الكابيتول، كانت الصين تتباهى امام العالم بأنها أحرجت البحرية الأميركية حتى اخرجتها. يستنتج من ذلك ان الصين ستبقى تتحين الفرص كلما احتدمت أجواء السياسية في أميركا.
جيران الصين العديدون، ومعهم العالم أجمع، يعتمدون على الولايات المتحدة في الحفاظ على حرية المرور عبر هذه الممرات المائية المهمة. اما الصين فتريد خروج الولايات المتحدة لأن ذلك من شأنه إمالة ميزان القوى في المنطقة لصالحها ووضع بكين في موضع يمكنها من فرض سلطتها على تايوان.
ربما كانت الولايات المتحدة بحاجة الى حرب تجعلها تستوعب اهمية هذه البقعة الساخنة. الأمل المرجى لدرء ذلك هو بناء جبهة دولية صلبة متماسكة لصالح «البحار المفتوحة»، والآلية موجودة بالفعل. فبعد عقود من المناظرات والجدل على مجلس الشيوخ الانتباه الى ما دب في الواقع من تغيرات ويصادق على انضمام الولايات المتحدة الى «اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار». لقد عارض جيلان من السيناتورات المحافظين تلك المعاهدة معتبرين اياها تقييداً واسع النطاق لسيادة الولايات المتحدة، وقد كان هذا الموقف مقبولاً عندما كانت البحرية الأميركية هي اللاعب الوحيد في الساحة، غير ان الصين نجحت في بناء قوة بحرية قادرة على منافسة الاسطول الأميركي، وهذ معناه ان الوقت حان بالنسبة للولايات المتحدة لحفظ أمن أكبر عدد ممكن من حلفائها.
مصادقة الولايات المتحدة على اتفاقية قانون البحار، تلك التي ستضم سياسة الولايات المتحدة رسمياً الى باقي اعضاء المجتمع الدولي، سوف توضح بجلاء ان اجواء الصدام المتصاعدة في بحر الصين الجنوبي ليست مجرد استعراض للقوة بين الصين والولايات المتحدة فقط بل هي مواجهة بين الصين والعالم أجمع، عالم يعتمد على بقاء بحر الصين الجنوبي حراً ومفتوحاً.
هذا هو ما علمتنا اياه الجغرافيا.. والقطاعات التسعة المؤشرة على خارطة قديمة لن تفلح في الغاء هذا الدرس.
عن صحيفة «واشنطن بوست»