رحلة مفترضة في الأنثروبولوجيا الفلسفيَّة

آراء 2021/05/24
...

  د.يحيى حسين زامل 
 تهتم «الانثروبولوجيا الفلسفية» بالعلاقة بين الفلسفة والثقافة بشكل رئيس، بما تمتلك الثقافة من نظم وانساق واعراف وقوانين وفنون وآداب، لذلك يمكن لكم التساؤل عن الإفادة من هذه العلاقة، بين علمين مختلفين وإن كان الأول (الأنثروبولوجيا) من سنخ الثاني (الفلسفة)، وهذه السنخية قادت فيلسوفاً كبيراً مثل «إيمانويل كانط» (1724 –  1804م) في عام 1773 م بمعالجة تلك الفلسفة ضمن مصدره الموسوم بـ «الأنثروبولوجيا من وجهة نظر علمية براجماتية»، قبل أن تظهر للوجود، أو يكتب (فيورباخ) عن الأنثروبولوجيا، فيصبح فيلسوفاً يحمل جنين الأنثروبولوجيا البكر، وصولا إلى رائد الأنثروبولوجيا الفلسفية «بول ريكور» (1913 –  2005م)، مؤكداً أن «الأنثروبولوجيا الفلسفية» تختص بالتفكير في الذات عينها، الفاعل الاجتماعي/ الإنسان، وهو الموضوع الرئيس في الأنثروبولوجيا (علم الانسان).
 
 في المطاف (الأنثرو- الفلسفي) ستتضح أمامنا صورة من التواشج الفكري والمعرفي بين علمين يشتركان في منهجية عامة، إذ كلاهما ينظران إلى حقيقة الأشياء نظرة عامة وكليِّة وشاملة، وستنتقل الفلسفة من الكلاسيكية إلى فلسفة القرون الوسطى ثم إلى الحديثة، (فلسفة الحياة اليومية)، بعد أن انُزلت الفلسفة من السماء إلى الأرض.
 
 مدينة الفلاسفة 
 انطلق «الأنثروبولوجي الصيَّاد» في رحلة مفترضة إلى «مدينة الفلاسفة» بعد أن وصفوا له تفاصيل تلك المدينة الشيِّقة، يحث الخطى في شارع يُطلق عليه بـ (شارع الفلاسفة)، لأن فيه ثلاثة مقاه يرتادها الفلاسفة كلٌ بحسب مدارسهم وتوجهاتهم وعصورهم.
 
مشهد أول.. الكلاسيكيون 
 انطلق «الصيَّاد» بعد أن أرتدي ملابس انيقة وجميلة تليق بهذه المدينة، ودس ملابس الغابة في حقيبة يحملها على كتفه، والهواجس تملأ رأسه، مزدحمة بكثير من الأسئلة عن الحياة والوجود والطبيعة، وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، وغيرها من الأسئلة التي تلح في ذهن كل باحث عن الحقيقة أو المعرفة، ودخل إلى شارع طويل، ثم وقف ونظر يميناً وشمالاً يحاول أن يجد المكان، كان الجو ممطراً وبدت احجار الشارع نظيفة ولامعة بعد أن غسلتها زخات المطر، وثمة أشجار على جانبي الطريق تطاولت حتى تلاقت في قيمتها محدثة نفقاً شجرياً مبللاً، تصفق فيه ريحاً رقيقة، لتنثر ما تبقى من رذاذ على رؤوس المارَّة، تتخللها شجيرات من الورد الجهنمي الاحمر والأصفر والوردي، ليضوع في المكان عطر من رائحة سماوية عجيبة.. رائحة التقاء السماء بالأرض. 
 - تذكر أنك حين تسمع أصواتاً عالية وضجيجاً وجدالا، فإنك قد وصلت إلى غايتك المنشودة، عندها ستجد رجالاً يرتدون قمصاناً قصيرة، ويضعون على اكتافهم اقمشة فاخرة وبعضها عادي جداً، وسترى كثرا منهم، ذا لحى طويلة، فاعلم إنك قد وصلت إلى «المقهى الأول».
 - دلف «الصيَّاد» إلى المقهى المطلوب وهو يرى حلقاً حلقاً من الاشخاص المشغولين بالاستماع إلى شخص يرتدي ملابس رثة وحافي القدمين، قادماً من سوق «أغورا»، وهو يقول: «ايها السادة إن الفلسفة تعني النظر في حقيقة الاشياء»، مثلا : هل يكون الفعل صالحاً لأنه يرضي الآلهة، أم أن الآلهة ترضى عنه لأنه صالح؟ فإذا صح الفرض الأخير كان تعريف التقوى هو أنها جزء من العدالة، ولكن العدل بصفة عامة يتعلق بما نلتزم به نحو الناس من واجبات، ولا شأن له في ما بيننا وبين الآلهة من صلة، فناداه رجل واسع الجبهة والمنكبين، وذو مظهر أرستقراطي، يحمل كتاباً مكتوبا عليه (جمهورية أفلاطون)، سيدي سقراط: أما أنا فأرى "الفلسفة" بإنها السعي الدائم لتحصيل المعرفة الكليِّة الشاملة التي تستعمل العقل وسيلة لها، وتجعل الوصول إلى الحقيقة أسمى غاياتها»، نظر «الصيَّاد» إلى «أفلاطون»، وقال: «إنها مثل الأنثروبولوجيا تسعى للحصول على المعرفة الكليِّة، ولكن بواسطة الاقامة الميدانية والملاحظة بالمشاركة، بدل العقل». 
 التفت «افلاطون» إلى «أرسطو»، وقال وأنت ما تقول: وقف «أرسطو»، وسط جمع من المتحاورين بعد أن سوَّى ملابسه، وقال: «أنا أرى أن الحواس هي المصدر الوحيد للمعرفة، وأن القوانين العامة ليست إلا أفكاراً معممة، وإنها ليست فطرية بل تكونت من مشاهدات للأشياء المتماثلة، فهي مدركات وليست أشياء»، رفع «الصياد» حاجبيه دلالة على الاستغراب: (آه ما أشبه ذلك بممارسات الأنثروبولوجي حين يستعمل حواسه في الميدان، النظر، السمع، الشم، واللمس، والكلام مع المخبرين، حين يريد تفسير بعض الظواهر، وأن هذه الظواهر هي مكتسبة وليست فطرية، والاكتساب من العناصر الثقافية في أي مجتمع)، نظر «الصياد» إلى ساعته واستدرك أن الوقت يمضي سريعاً، وأن عليه أن يمر بمقاهٍ أخرى، لذلك سارع بالخروج متجهاً صوب «المقهى الثاني».
 
مشهد ثان: الفلسفة القروسطية 
 دخل «الصيَّاد» إلى مقهى «القروسطية»، وهو يجول ببصره في أرجاء المقهى، كان المقهى يمتلئ بالأشخاص، والأيقونات المعلقة على الحيطان لأشخاص تحيط رؤوسهم هالات بيضاء (مقدسون)، إذ تعد الفلسفة القروسطية أحد أهم محطّات تطوّر الفلسفة المتأثرة باللاهوت المسيحي؛ وتُعرف بإنها إعادة لاكتشاف الثقافة القديمة التي تطوّرت في وقت سابق في اليونان وروما خلال الفترة الكلاسيكيّة، وأبرز مفكّريها في ذلك الوقت «توما الأكويني»، الذي وقف بين الجموع مسترشداً «ببيتر داميان»، قائلاً: إن «الفلسفة هي علم اللاهوت»، نظر «الصيَّاد» الى الحضور ليبدو له أن هناك اشخاصا يشبهون العرب في ملبسهم، وحين سأل من كان بجانبه، أجابه: نعم أنه «ابن سينا»، و»ابن رشد»، اللذان بديا معترضين من طريقة الاستدلال بالإيمان مقابل العقل، إذ كانا يميلان للعقل أكثر من الإيمان، في حين أن «أوغسطينوس» يعترض هو الآخر قائلا بأنّه لن يسمح لتحقيقاته الفلسفيّة بأن تتجاوز سلطة الله على الإطلاق، ومن طرف المقهى صاح أحدهم، ويدعى «أوغسطين» أنا موقن بوجود الله والروح والإدراك العقلي، ولم يُخالجني شك في ذلك، فلئن جاز للإنسان أن يرتاب في ما تأتي به الحواس من ألوان المعرفة، فليس يجوز له أن يشك في إدراك العقل؛ لأنه حق ويقين ليس إلى الشك فيه من سبيل، والشك مهما اتسعت دائرته لا يتناول شعور الإنسان بإحساسه الباطني، بدا «الصيَّاد» ساهماً متفكراً في كلام المتحاورين، وقد وضع قبال (اللاهوت) (الناسوت)، ومثال الإيمان تلك الطقوس والممارسات الدينية للمقدس الديني في المجتمعات، والاعتقاد بالأرواح بوصفه حواراً باطنياً يتعدى مجال الحواس إلى الإحساس، وشعر «الصيَّاد» بالدوار من هذه الأفكار، وفضّل أن يرحل قبل ينتهي ذلك النهار الذي بدا طويلا ومتعباً في هذه السياحة الفلسفية المضنية، لذلك خرج مسرعاً وفي ذهنه «المقهى الثالث» من شارع الفلسفة.
 
مشهد ثالث: الحداثيون..الفلسفة من السماء إلى الإنسان
 استذكر «الانثروبولوجي الصياد» في طريقه للمقهى الثالث، معلوماته عن الفلسفة الحديثة بمختلف مذاهبها وتياراتها التي ارتبطت بعصر النهضة، واتسمت بالإنسانية ولا سيما في بداياتها، ولذلك عُدّ الإنسان المقياس الرئيس في الفلسفة الحديثة، بناءً على حواسه كما في «المنهج التجريبي» أو بناءً على العقل كما في «المنهج العقلاني»، لذلك توَّقع «صاحبنا» أن يجد اشخاصاً مختلفين في هيئتهم وملبسهم وطريقتهم في الحوار، وحينما اقترب من المقهى لاحظ بعض الشخصيات الذين يلبسون الملابس الانيقة والشعر المسرّح، وفي جانب من المقهى هناك صندوق يبث موسيقى هادئة من دون عازفين ولا جوقة 
موسيقية. 
 وحالما دخل المقهى استقبله صاحبها مرحباً وهو يقول: تفضل يا سيدي، يبدو أنك غريباً، فلم يعهد لي أن رأيتك هنا من قبل، وأنا على استعداد لإبداء المساعدة، أحنى «الصيَّاد» رأسه شاكراً صاحب المقهى، وأوضح له مهمته الاساس في هذه الرحلة من البحث في مدينة الفلسفة، فقال صاحب المقهى: إن الفلسفة الحديثة فيها مذهبان أساسيان، وهما: المذهب التجريبي ومؤسسه ذلك الرجل الذي يدعى «فرانسيس بيكون» ويؤمن هذا المذهب بأنّ الحقائق يتمّ الوصول إليها عن طريق التجربة وباستعمال حواس الإنسان، فلا يوجد ما هو فطريٌّ في الإنسان إنّما هي خبراتٌ متراكمة، يبدو «بيكون» في هذه اللحظة طويل القامة ويرتدي قبعة فوق شعر منسدل، ويحيط رقبته (بدانتيل) أبيض، مع معطف طويل، وهو يحاور شخصا آخر أمامه. يكمل صاحب المقهى كلامه: وأما الذي أمام «بيكون»، فهو «ديكارت» صاحب المذهب العقلاني، ويهتم بدراسة الوجود والكون، ويؤمن بأنّ عقل الإنسان قادرٌ على استنباط واستنتاج جميع المعارف، بدلاً من الاعتماد على الحواس.
 
الصياد: إذن كلاهما الواحد بالضد من الآخر
صاحب المقهى: يعتقد العديدون أنّ العقلانية والتجريبية هما ضدّان، إلّا أنّه وفي الواقع لا يوجد أي اختلاف بين هذين المنهجين إذ يكملان بعضهما بعضاً.
 في المشهد أيضاً يقف مع «بيكون» و»ديكارت» فيلسوف آخر يدعي «ليبتنز»، فيعلو صوت «ديكارت» يا سيدي: (أنا أُفكّر إذن أنا موجود)، فيبتسم «ليبتنز» ويقول يا سيدي: كلّ الموجودات حيّةً، ولكن بحسب درجة إدراكها للوجود، وتنقسم إلى أربعة أقسام، أوّلها الجماد، وبعدها النّبات ثم الحيوان فالإنسان، وفي جانب آخر من المقهى يقف «كانط» صاحب المذهب النقدي في الفلسفة والذي يقول لصاحبيه: «المقولات بلا حدوس فارغة، والحدوس بلا مقولات عمياء»، إذ يرى أن حدود العقل في نظرية المعرفة هي حدود التجربة -أيْ عالم الأشياء فهو يفرّق بين عالم الأشياء الذي نحيا فيه ونتعامل معه بعقولنا ونستقي منه معارفنا وبين عالم الأشياء في ذاتها، أيْ: الميتافيزيقا التي لا يستطيع أو يتمكّن أحد من البرهنة على وجودها بالأدلة العقلية. 
 وفي جانب بعيد من المقهى يجلس على شكل دائرة كل من (جون لوك، ودافيد هيوم، وجان جاك روسو، وسبينوزا، وهيجل، وكارل ماركس، وتوماس هوبز، ونتيشه)، وهم مشغولون بالحوار والجدال في مواضيع فلسفية واجتماعية وثقافية معاصرة، بعد ركزت الفلسفة أو اهتمت أكثر من السابق بموضوع الانسان في حياته اليومية على الأرض، وبعد أن ابتعدت عن الأسئلة الأولى مثل: العلة الأولى، والمادة، والطبيعة، وغيرها من ثيمات الفلسفة الكلاسيكية أو القروسطية.  نظر صيادنا في نهاية رحلته إلى سماء المقهى التي تعلوها سحابة من دخان التبغ والسجائر، مما حدا به النظر الى الشارع لرؤية انتهاء النهار الذي اوشك على الأفول، ثم التقدم لصاحب المقهى وشكره، والانصراف من المقهى إلى الشارع الذي بدا مزدحماً هو الآخر بالناس، ولكنه أنقى هواءً واصفى جواً بعد موجة من المطر الخفيف الذي ابتل منه الشارع والطرقات والبيوت.