جيفري سان كلير
ترجمة وإعداد: أنيس الصفار
تقول «أدريان ريتش»، وهي شاعرة وكاتِبة وناشطة سلام أميركية: «إن كنت تريد تحويل مجتمع عانى مرارة القسوة والبطش الى مجتمع يحيا الناس فيه بالكرامة والأمل عليك ان تبدأ بتمكين طبقاته الأضعف. عليك ان تبدأ البناء من الأسفل صعوداً.. وأول ذلك هو انهاء تعذيب وقتل من لا يتمتعون بالحماية».
اسمع كثيرا من الناس يقولون ان اسرائيل قد تجاوزت الحد هذه المرة .. ولكن، ماذا لو كان تجاوز الحد هو أصل الفكرة والهدف؟ ماذا لو كانت الفكرة هي أن تصبح كل فظاعة جديدة يصمت عنها العالم حداً جديداً مستتباً من عنده يبدأ التمادي في المرة التالية؟.
كل فظاعة ترتكب بحق الفلسطينيين تقريباً ستجد من يسوغها معتبراً أن مجرد وجود الفلسطينيين مبرر كافٍ لارتكابها، وأن حتى اشد ردود الفعل تلقائية لحفظ الوجود يصلح ذريعة لإنزال اقصى درجات العنف
بهم.
أي انحراف أخلاقي هذا أن نرى الحكومة الاسرائيلية تؤكد على حجتها المعتادة: «حق الدفاع عن الوجود» ضد شعب قد حرمته من «حق الوجود» أصلاً. أشد الافعال انحطاطاً كثيراً ما يأتي مموهاً بثوب الفضيلة.
كي نصف ما يحدث في غزة بأنه «حرب» علينا أولاً ان نعطل قناعتنا بمفهوم النسبة والتناسب. واقع الأمر ان تلك الهجمات على البيوت والبنايات والمنشآت المدنية إنما هي تصعيد لسياسة التهجير التي تمارسها اسرائيل ولكن باستخدام الطائرات المسيرة وصواريخ كروز بدل الجرافات. وما دام السياسيون الأميركيون يبقون انتقاداتهم للفظائع الاسرائيلية محصورة بنتانياهو والمتطرفين الاسرائليين فلن يتغير شيء، بل ان ظلم منظومة التمييز العنصري، الذي يقوم عليه ذلك كله، سوف يكتسب
الشرعية.
فالفلسطينيون يمثلون في نظر الاسرائيليين عقبة كأداء بوجه نمو الدولة الاسرائيلية وتمددها، وهذه العقبة يجب ان تزال. لكن الازالة وحدها لن تكفي، بل يجب محو هويتهم الثقافية وتاريخهم ايضاً، يجب ألا يبقى أي أثر لوجودهم كشعب.
حتى وقف الضربات الجوية الاسرائيلية البشعة لن ينتج عنه سوى عودة فلسطين الى حالة العنف اليومي والارهاب الذي بات شأناً روتينياً مقبولاً لدى الولايات المتحدة. العلاقة الوثيقة بين الفلسطينيين وسكان أميركا الأصليين قوامها التجربة المشتركة التي مر بها الشعبان، فكلاهما يتلقيان العقاب لا لذنب سوى كونهما يحيان على أرضهما، وهذا نمط من الوجود سعت الولايات المتحدة واسرائيل الى تجريمه باجتراح شتى السبل والاسباب القانونية المناسبة. كلا الفلسطينيين وسكان أميركا الاصليين يعلمان حق العلم ان ما من شيء يستفز ما يسمى «الحكومات الديمقراطية» ويدفعها للرد بأقصى درجات العنف مثل تأكيد السكان الاصليين على المطالبة بحقهم الاساسي في تقرير المصير، ذلك الحق الذي تزعم تلك الحكومات نفسها أنه مبدأ تأسيسها.
أي السلوكين أشد انحطاطاً.. الاحتماء بالمدنيين كغطاء يقي من القتل ام استغلال ادنى شبهة بوجود مقاتل او اثنين بينهم لتبرير قصف مربع كامل من المباني السكنية؟.
لقد تدخل بايدن بالنيابة عن اسرائيل لقطع الطريق على اربعة قرارات من جانب الأمم المتحدة لوقف اطلاق النار، وبذا سمح للجيش الاسرائيلي باستهداف المنشآت الاعلامية ومخيمات اللاجئين والمباني السكنية ومحطات المياه والمستشفيات ومنشآت فحص المصابين بجائحة كورونا واعطاء اللقاحات. عند هذا الحد يمكن اعتبار بايدن شريكاً لنتانياهو وباقي القيادات السياسية والعسكرية الاسرائيلية في جرائم الحرب التي ارتكبت خلال الاسبوع الماضي.
يقنع كثير من اللبراليين الأميركيين انفسهم بأن الهجمات الأخيرة على غزة تثبت ضرورة العمل على تحقيق حل «الدولتين»، بيد أن حل الدولتين يتطلب ان تكون كلتا الدولتين قادرة على انتخاب الحكومة التي تريدها وتوفير الأمن لمواطنيها وحماية الممتلكات والمنازل ونشاطات الأعمال والحياة، واسرائيل لن تسمح مطلقاً بتوفر مثل هذه الشروط والمقومات للدولة الفلسطينية حتى لو كان ذلك في ظل الأوضاع المزرية المفروضة عليها حالياً. التعايش بين الدولتين سيكون مستحيلاً حين تتولى دولة واحدة «وأقصد تلك التي تمتلك الاسلحة النووية» بفرض الكيفيات والشروط السياسية على الدولة الثانية، هذه الاملاءات سوف تواجه دائماً بالمقاومة، بل ان من الواجب مقاومتها. لذا فإن الحل الحقيقي الوحيد يتمثل في دولة واحدة تتألف من اسرائيل وغزة والضفة الغربية معاً ويكون لجميع المواطنين فيها الحقوق الاساسية نفسها وفق القانون، دولة تديرها حكومة منتخبة ديمقراطياً يسمح فيها لكل مواطن يتعدى عمره 18 عاماً ان يصوّت بصرف النظر عن انتمائه أو هويته الدينية او العرقية. الحل الحقيقي الوحيد لإنهاء دولة الفصل العنصري هو هدم نظام الفصل العنصري وتقويضه من
الاساس.
عن موقع «كاونتر بانتش»