ثامر عباس
لست ممن يمدح جزافاً «بالجمهور» ويقدح اعتباطاً «بالنخب» من منطلق موقف سياسي أو انتماء إيديولوجي مسبق، فلكل منهما – على ما أرى - سلبيات لا تخفى وايجابيات لا تمحى. وإنما إقرار ببعض الحقائق والوقائع التي يمكننا تلمسها وفحصها من هذا الطرف أو ذاك، خلال تعاطيهما المباشر مع معطيات الواقع ومنتجات الفكر.
وعلى هذا قد يظن البعض من القراء أننا أخطأنا في نسبة «المناقب» للجمهور ونسبة «المثالب» للنخبة، ذلك لأن المتعارف عليه هو أن الأول لا تصدر عنه سوى «الرذائل»، في حين أن الثانية لا تجترح إلّا «الفضائل»!. الحقيقة أن هذه التوصيفات والقناعات صحيحة تماماً على المستوى «النظري» وحسب، ولكنها على الصعيد «الواقعي» لا تبدو – دائماً وفي كل الأحوال - كما نتصور ونعتقد . إذ إن للأول / الجمهور «صحوته» في بعض الأحيان، وان للثانية / النخبة «كبوتها» في بعض الحالات، الأمر الذي يتطلب منا – قبل أن نطلق العنان لأحكامنا - مراعاة طبيعة الظروف القائمة وماهية الأوضاع السائدة، التي تتسبب غالباً بحصول مثل هذه المفارقات
الصارخة!.
وإذا ما أخذنا معطيات التجربة العراقية بعين الاعتبار، فإن علاقة الجمهور العراقي «بنخبته» – بكل أطيافها ومسمياتها – تعكس لنا حقيقة غالباً ما نجهلها أو نتجاهلها مؤداها؛ أن جمهورنا لا يخفي سلبياته حيال تردي وعيه الاجتماعي، ولا يداري على قلة اكتراثه بانتمائه الوطني، فهو يؤكد – بالأفعال لا بالأقوال - كونه مبعثراً إلى قبائل، ومذرَّاً إلى طوائف، ومتشظياً إلى اثنيات. لذلك - كما ترى – تغلب عليه «الشفافية» في تعاطيه مع الواقع، بحيث لا يسعى لتزويق قباحاته وتزيين عيوبه. أما بالنسبة إلى مواقف «النخبة» – وخصوصاً تلك المتحصنة خلف وقارها «الثقافي/ المعرفي، أو العلمي/ الأكاديمي» - فهي مواربة وغير واضحة ويغلب عليها الجفاء والامتعاض، إزاء اهتمامها وعلاقاتها «بجمهورها» الذي غالبا ما تكنّ له مشاعر الازدراء والاحتقار، استناداً إلى ظاهرة عزوفه وتطيّره من التفاعل والتواصل مع الأفكار التي تطرحها
وتروجها.
والحقيقة أن المسؤول عن هذه الجفوة أو الهوة بالدرجة الأولى هي «النخبة» وليس «الجمهور»، من حيث أن ما يمتاز به هذا الأخير من تخلف وتأخر قمين بتفسير أسباب عزوفه عن التعاطي مع منتجات الفكر والثقافة، ومن ثم فإن هذه «الجفوة/ الهوة» تبدو مسألة متوقعة ومرجحة إن لم تكن طبيعية.
هذا في حين أن ظاهرة تقوقع النخبة على ذاتها والنأي بنفسها عن ممارسة دورها التطهيري، والانخراط بواجبها التنويري داخل أوساط ذلك الجمهور المدجن، ناهيك عن تحاشيها «التورط» بنقد أفكارها المعلبة والمسّ بقناعاتها المتكلسة، هي ما يبدو للناظر مسألة غير متوقعة وغير طبيعية، لا بل ومستهجنة. لاسيما ان وجود ما نسميه «بالنخبة» مرتهن بوجود «جمهور» يستقبل أفكارها ويتحاور مع طروحاتها ويتفاعل مع تطلعاتها وينخرط في سجالاتها، وإلّا فما معنى أن تكون «نخبة» بلا «جمهور» يحتاج لإرشادها ويستعين بتوجيهاتها ويتطلع
لمثلها؟!.
وهناك «فضيلة» أخرى يتفوق فيها «الجمهور» الأمي على «نخبته» المتعلمة، وهي أن ما يدور في وعي الأول ويمور في سيكولوجيته سرعان ما يجد طريقه إلى لسانه مباشرة من دون لف أو دوران، سواء تعلق الأمر بموقف سياسي أو سلوك اجتماعي أو واقع ثقافي أو اعتقاد إيديولوجي، منطلقاً بذلك من حقيقة كونه لا يوجد لديه ما يخسره حين يعبر عما يدركه ويشعر
به.
أما على الجانب الآخر، فإنه من المتعذر عليك، بلّه الاستحالة، معرفة ما يدور في خلد رهط الثانية «النخبة» من اهتمامات وتصورات وطموحات، لأن أغلب ما تقوله وتعلن عنه لا يعبر حقيقية عما تضمره بين طيات وعيها وأخاديد سيكولوجيتها. ذلك لأن من يتحكم بمسار هذه العملية الذهنية المعقدة ليس «وعيها» المستقطب أصلا وسيكولوجيتها المجيشة فعلاً، وإنما بندول «مصالحها» الشخصية والفئوية، ومن ثم فهي مضطرة إلى المداورة والمراوغة للحيلولة من دون إفشاء ما تكنه من نوازع سيكولوجية ودوافع اجتماعية من جهة، وإخفاء ما تبيّته من تطلعات اقتصادية وخيارات سياسية من جهة أخرى.