انتماءٌ فنيٌّ

آراء 2021/05/29
...

  رفيف الشيخلي
لم أكن أدرك وأنا أزور مصر أن تلك المدة القصيرة التي سأقضيها هناك ستغير فيَّ أمورا كثيرة، وتجعلني أنتبه لعدة أشياء بسيطة لم أكن قد أعرتها أيَّ اهتمام في ما سبق، كانت زيارة شبه مفروضة بسبب ظروف الطيران وكورونا، ولم أتمكن للأسف من رؤية البلد بسبب الأوضاع، لكن، لأول مرة أشعر بالانتماء من دون معرفة سابقة، هذا ما كنت أتوقعه، أني لا أعرف البلد، إلى أن تذكرت، كلنا نعرفها، هي مغروسة في ذاكرتنا، تشربناها منذ الصغر.
من منا لا يفهم اللهجة المصرية حتى وإن كان لا يتقنها؟، من منا لا يعرف المطبخ المصري؟، لا يعرف الفول والطعمية؟، أو الكشري؟، والفطير المشلتت؟، ويعرف ولو بشكل بسيط مكوناتها حتى وإن لم يتذوقها في حياته؟.
من منا لا يعرف بعض مناطق مصر من الأغاني والأفلام والمسلسلات؟، بل ونعرف أيضا أن حي السيدة بعيد عن منطقة الحسين، نعرف الشوارع والأحياء، المناطق الشعبية والغنية. نعرف مبنى الإذاعة والتلفزيون الذي رأيناه في عدة أعمال فنية، النيل والليل، وميدان التحرير، والجيزة والأهرام، وان الدنيا زحمة. 
منذ وصولي إلى مطار القاهرة، وبسبب خطأ تسبب في عدم وجود اسمي على بطاقات السماح بالدخول، كأن الروح المصرية القادرة على قلب كل الأمور إلى نكتة ودعابة قد تلبستني، هكذا، وجدتني أمازح المسؤولين وأحول الخطأ إلى نكتة نضحك كلنا بسببه.
وجدت نفسي قادرة على التعامل مع الناس والتحدث باللهجة المصرية، ولو بشكل طفيف فيه بعض الأخطاء، لكني لم أكن أبدا أحس بغربة، ولا بأي نوع من عدم القدرة على التواصل مع الآخر، أنا التي أجد صعوبة في التعامل مع أهل بلدي بسبب اختلاف العادات بين بلدي وبلدي الثاني!!، كأني عشت في مصر في حياة أخرى، اعرف ناسها، طيبتهم، قدرتهم الرهيبة على الصبر، روح الدعابة التي تطري حياتهم، كرمهم، شهامتهم، التقيت بهم في الكثير من الأفلام والمسلسلات، في الكثير من الأغاني، كنت أعرفهم، لم يكونوا غرباء عني، ولا شعرت معهم بالغربة.
ما أحببته في مصر أيضا، بعيدا عن الانتماء الفني، أني وجدت فيها شبها بين بلديّ، فيها الروح الشرقية، وطريقة التعامل الاجتماعي مثل العراق، والانفتاح والترحيب وبعض الحرية مثل المغرب، وهذا ما جعلني أتساءل بحزن، ما الذي يمنع أن تكون لبلديّ أعمال فنية تعرف المشاهد على البلد وطباعه وناسه وطرق عيشه؟، تمكن الزائر أن يقفز من الفرح حين يصادف ما شاهده في إحداها؟، أليست مثل هذه الأمور تساعد على السياحة والانفتاح على الآخر؟، تساعد الناس على التعرف علينا؟، مثل مصر، مثل سورية. لا أعرف بِمَ سأحس لو زرت سورية أنا المدمنة منذ الصغر على كل شيء يخصها؟، لو زرت جبل قاسيون أو أحياء الشام العتيقة، أو لبنان بضيعاته، وشوارعه الصاعدة التي تذكرني بمدينة طنجة المغربية، وشارع الحمرا والكورنيش. 
يحزنني أن أرى أن أصدقائي المشارقة يجدون صعوبة في فهم اللهجة المغربية، مع أنهم يحفظون أغاني سعد المجرد وعبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بالخياط، يعرفون المدن، ولكنهم لا يعرفون أي شيء عنها، معالمها مثلا، أو بعض شوارعها الرئيسة، أقصد لا يعرفونها عن طريق الأعمال الفنية، لا يحسونها.
أما عن أهلي في المغرب، فللأسف، جلهم لا يعرف عن العراق سوى أخبار الانفجارات والخوف، لا يدركون أن هناك فرحا ومحبة، أن فيه حياة اجتماعية مليئة بالطيبة والتعاون، لا يعرفون أي عمل فني، لا شيء يصلهم إلا 
الأخبار.
في مصر، كنت أشعر أن القاهرة كلها، بشوارعها وناسها ونيلها وبناياتها تغني مع محمد منير... قول للغريب حضنك هنا، دربك قريب من دربنا... بيتك هنا، أهلك هنا... حزن البشر ده 
حزننا...
فما الذي يمنع أن نغني نحن أيضا، أو نرحب بأي عمل فني بالغرباء؟.