ظاهرة (المداهنة) في الأوساط الثقافيَّة

آراء 2021/06/02
...

 ثامر عباس
 
في الأوساط الثقافية العامة والمؤسسات العلمية الخاصة، التي يتمتع خلالها العاملون والناشطون ببعض مزايا؛ البريق المظهري/ الإعلامي، والبرستيج الشعبي/ الاجتماعي، والتراتب الوظيفي/ البيروقراطي. غالبا «ما تشيع فيها ظاهرة «المداهنة» في العلاقات و«المجاملة» في الاهتمامات، كما لو أن عقدا «مضمرا» يلزم الجميع على مراعاة مثل هذه الطقوس العصبية والأعراف القبلية، دون الاهتمام بأن سلوكا «كهذا يتنافى جملة وتفصيلا» مع موضوعية الموقف المعرفي وأخلاقية المهنة الثقافية. 
وإذا ما كان مقبولا «– بعض الشيء – أن يحصل هذا الضرب من التصرف السلبي من قبل «العامة» حيال «الخاصة»، كنوع من أنواع التقدير لمعارفهم والتوقير لأشخاصهم، لاعتبارات قد تتعلق بالفوارق بين الجانبين لجهة الاختلاف في التحصيل العلمي، أو التباين في المستوى الثقافي، أو التفاوت في المنصب الأكاديمي. بيد أن حصول ذلك في ما بين الخاصة أنفسهم يعد – وبجميع المقاييس – أمرا «مرذولا» وتصرفا» غير مقبول بالمرة. ذلك لأن هذا المسلك العصبي/ القبلي ينبئ بأن المعني لا يسيء فقط «لشخصه/ لذاته»، بوصفه فاعلا اجتماعيا حبته الظروف ببعض الامتيازات الثقافية أو الفكرية أو العلمية، التي ينبغي عليه مراعاتها بصرامة واحترامها بموضوعية فحسب، بل وكذلك – وهنا بيت القصيد – يسيء لزميله «الآخر» الذي ربما قد «يداهنه» و«يجامله» بالطريقة والأسلوب نفسه - من خلال كيل المديح المجاني له - حقا «أو باطلا» - لا لشيء إلاّ لأن صاحبه : إما أن يكون قد أصدر كتاب جديدا «لم يقرأه أصلا»، وإما أن يكون قد أسهم في ندوة فكرية أو ثقافية لم يحضرها أصلا»، أو أن يكون قد شارك في حوار سياسي نقاش أيديولوجي لم يكن متفقا «مع طروحاته أصلا»!. 
هذا في حين كان حريا «به – إن كان صادق النوايا وسليم الطوايا - أن يكون قد قرأ «أولا»»  كتاب صديقه قراءة محايدة تنم عن حرص وشعور بالمسؤولية لتقييم غثّه من سمينه، وبالتالي يساعده على اكتشاف نقاط ضعفه ومكامن قوته، أو أن يرشده صوب الفكرة التي أخفق في الاهتداء إليها، أو بالعكس حالفه الحظ في الاستدلال عليها واستخلاصها. وكذلك الأمر بالنسبة لمتابعة مساهمات ومشاركات زميله في الندوات الفكرية والثقافية التي يفترض به أن يكون مطلعا على حيثياتها «مسبقا»، ليس لأغراض كيل المديح وإغداق الثناء بمناسبة وغير مناسبة إرضاء لغرور صاحبه وإشباعا» لنرجسيته، وإنما لإبداء الملاحظات الدقيقة وإسداء النصائح الصائبة التي من شأنها اغناء مضامين البحث و إثراء محتويات الدراسة. الشيء نفسه ينبغي أن يحصل حيال طبيعة الأفكار والتصورات، التي تعرض لها صديقه خلال عملية الحوار أو النقاش، والتي نفترض أنها كانت «قبلا» مدار حوارات جادة ونقاشات موضوعية مباشرة أو غير مباشرة بينهما. إذ يتوجب عليه أن يقول فيها وحولها رأيه الشخصي بصراحة مطلقة دون مواربة، كما يفترض فيه أن يطرح عنها وعليها قناعاته الفكرية بصدق وشجاعة، دون أن يتردد في قول الصدق أو يتلكأ في كشف الحق، مخافة أن «يزعل» صديقه أو «يتبرم» من قساوة النقد وخشونة التصويب... وهكذا. 
والمفارقة أن وسائل التواصل الاجتماعي- خصوصا «الفيسبوك - التي كان ينتظر منها أن تعفي الناس من حرج «المداهنة» الناعمة و«المجاملة» الصورية، حين يرومون إبداء آرائهم الخاصة وطرح تصوراتهم الذاتية حيال مختلف القضايا والمسائل المتداولة، أضحت – أكثر من سواها - وسيلة مؤثرة وفعالة في الترويج لهذه الظاهرة السلبية، وطريقة مختصرة ومباشرة في تعميم تعاطيها وتشجيع مزاولتها، ليس فقط بين «عامة» الجمهور للتنفيس عن همومهم والترويح عن معاناتهم وحسب، بل وكذلك بين «خاصتهم» في التسابق لاستعراض إسهاماتهم الثقافية «القيمة» والتفاخر بمنجزاتهم الفكرية «الفريدة». ولذلك باتت عبارات «الثناء» و«الإطراء» تطلق جزافا لكل من هبّ ودبّ حتى بالنسبة للأفكار البائسة والآراء سذاجة والتصورات الطائشة، طالما إن الشخص المقابل «المتعالم» بات يطرب لمساع عبارات «التعظيم» و«التفخيم» لأي شيء وعن أي شيء، استجابة لنزوع القبيلة الرابض في مخزون لاوعيه والكامن في ترسانة مخياله!. 
ولتلافي مثل هذه «اللوثة» ينبغي على المثقف الحقيقي والكاتب الجاد، ألاّ يقع ضحية العبارات المعسولة والجمل المبذولة، كما يتجنب كل ما يطربه من كلمات المديح وما تسكره من عبارات الثناء - فهي بالنسبة لكل من يتعاطى النشاط الفكري/ الثقافي - كالسموم المغلفة بالحلوى، بقدر ما تشنّف أسماعه وتثير حماسته الملاحظات النقدية «الصارمة»، التي تشي بالحرص على قيمة المعرفة من الإسفاف الطفولي، وعظمة الفكر من الاستخفاف الصبياني!.