هندسة النتائج عبر النظام المركّب

قضايا عربية ودولية 2021/06/02
...

 جواد علي كسار
ليست هذه هي الانتخابات الرئاسية الأولى التي شهدت فيها الحياة السياسية داخل إيران، رفض ترشيح شخصيات كبيرة وأسماء بارزة، كما حصل هذه المرّة مع علي لاريجاني ومحسن هاشمي رفسنجاني وعلي مطهري واسحاق جهانگير ومحمود أحمدي نجاد والقائد الحرسي سعيد محمد وغيرهم كثير، إذ كان الإقصاء والإلغاء ملازمين لانتخابات الرئاسة الإيرانية، منذ دورتها الأولى عام 1980م، مروراً بالدورات الإحدى عشرة اللاحقة، وصولاً إلى الدورة الثالثة عشرة الحالية.
فمن الأسماء البارزة التي أُسقطت بذريعة عدم الأهلية، خلال أربعة عقود من تأريخ الرئاسيات الإيرانية، يمكننا استذكار شخصيات من قبيل جلال الدين فارسي ومسعود رجوي (الرئاسة الأولى) وإبراهيم يزدي (الرئاسة الثالثة) ومهدي بازرگان (الرئاسة الرابعة) ومصطفى معين ومحسن علي زادة (الرئاسة التاسعة) قبل إعادة الاعتبار لهما بحكم ولائي من المرشد، وهاشمي رفسنجاني (الرئاسة الحادية عشرة) ومحمود أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2017م، التي فاز بها حسن روحاني للمرّة الثانية.
لماذا يُرفضون؟
بفعل الانسياق وراء التحليلات المقطعية العجلى وغياب منهجية التحليل التراكمي، يتصوّر البعض خارج إيران وربما حتى داخلها، أن رفض الأسماء السياسية البارزة التي يمكن لها أن تغيّر مصائر الرئاسة، يأتي لأسباب سياسية محضة، أو وفقاً لهندسة خاصة تصمّمها السلطة العليا أو الدولة العميقة ولاسيّما المرشد ومكتبه، أو تنفذها الأجهزة المعنية، أو أن الحذف يتمّ تجاوباً مع صراع الأجنحة والتيارات داخل السلطة، ومحاباة لأمزجة معينة لها سطوتها داخل النظام. الحقيقة أن كلّ هذه الأسباب واقعية، ولها حضورها الفاعل القوي، في رسم المشهد الانتخابي والتحكّم بنتائجه، لكنها بمجموعها لا تمثل العلّة الكاملة لعملية الحذف والإلغاء، ومن ثمّ توجيه الانتخابات صوب نتائج متبنّاة سلفاً، ومخطط للوصول إليها مسبقاً، بل تكمن العلّة التامة في مكانٍ آخر، تعكسه تركيبة النظام الانتخابي المزدوج، وتدخل في تكوينه كلّ تلك الأسباب المذكورة أعلاه.
لتركيز الانتباه إلى هذه النقطة، دعونا نستذكر البُنية المزدوجة للنظام الانتخابي في الرئاسيات الأميركية، فالانتخابات هناك مركّبة بين التصويت الشعبي من جهة، والكلية أو المجمع الانتخابي من جهة أخرى، وأساس البت في مصير المرشّح هو الثاني، فما لم يحصل المرشّح على الأغلبية المطلقة من (538) هي مجموع أصوات المجمع الانتخابي، لن يدخل البيت الأبيض، ولو حاز على الأغلبية في التصويت الشعبي. شيء من هذا القبيل موجود في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، على الأقلّ من حيث البُنية والتركيب، فالنظام الانتخابي في إيران ليس بسيطاً من زاوية الأجهزة والتكوين، بل يمرّ بمراحل تبدأ بوزارة الداخلية، ثمّ راشح مكثّف هو «شوراى نگهبان» (مجلس حماية الدستور، المؤلف من اثني عشر عضواً) الذي كان له ولا يزال الدور المؤثر والخطير في تصميم النتائج وهندسة الانتخابات، قبل أن تبلغ التراتبية للتصويت الشعبي متأخرة، ومع ذلك لن تكون هناك أيّ قيمة تُذكر للتصويت الشعبي، مهما كانت نتائجه حاسمة لصالح المرشّح، إذ لن يكون رئيساً للجمهورية حتى لو حاز على جميع الأصوات الشعبية، إلا بـ«التنفيذ»؛ والتنفيذ ببساطة هو إمضاء الفقيه الولي للنتائج، وإلا فمن دون هذا الإمضاء لن يكون للأصوات الشعبية أي قيمة على الإطلاق.
بهذا نتبيّن أن انتخابات الرئاسة الإيرانية، تضعنا أمام أنموذج مركّب رباعي التكوين، يتألف من وزارة الداخلية كجهاز تنفيذي، و«شوراى نگهبان» كجهاز له الأثر الكبير في هندسة الانتخابات ورسم الاتجاه العام لمسارها ونتائجها، ثمّ التصويت الشعبي، وأخيراً المرشد الذي يعطي بإمضائه، الشرعية للعملية برمّتها.
وما حصل في الدورة الحالية التي نترقّب التصويت الشعبي فيها، يوم الجمعة 18 حزيران الحالي، لم يختلف قيد أنملة عمّا جرى في الدورات الانتخابية السابقة، سوى بصدمة الأسماء، إذ كان من الصعب للعقل السياسي وقواعده الشعبية، أن يتوقع حذف ثلة من خيرة أبناء النظام وذواته، كما حصل فعلاً مع علي لاريجاني وعلي مطهري ومحسن هاشمي، وسعيد محمد واسحاق جهانگير وأضرابهم. لكن إذا نظرنا للأمر من زاوية البُنية المزدوجة للنظام الانتخابي، فإن الحذف والإلغاء والإقصاء أمر طبيعي، ينسجم تماماً مع وظيفة (شوراى نگهبان) في هندسة المشهد وإعادة تركيبه، بما يؤدّي إلى النتيجة التي يرجوها النظام ويُخطّط لها، إذ لم يفعل سوى ما كان عليه أن يفعله، من فتح طريق الفوز وتعبيده أمام مرشّح النظام إبراهيم رئيسي، بحذف منافسيه الأقوياء الذين يمكن أن يهدّدوا فوزه؛ في طليعتهم علي لاريجاني واسحاق جهانگيرى، وعلى مستوى أقلّ علي مطهري ومحسن هاشمي رفسنجاني.
 
الدورات السابقة
لكي نعطي الدليل الاستقرائي الحاسم على صحة هذه النتيجة ودقّتها؛ وأن ما قام به مجلس حماية الدستور (شوراى نگهبان) في هذه الدورة، هو عين ما قام به في الدورات السابقة، نمرّ سريعاً على تاريخ الرئاسيات السابقة.
في الانتخابات الرئاسية الأولى التي جرت بتأريخ 25 كانون الثاني 1980م، لم يكن مجلس حماية الدستور (شوراى نگهبان) قد تأسّس بعد، ومع ذلك فقد أخذت منهجية الإقصاء والإلغاء طريقها إلى التنفيذ، فمن مجموع (124) مرشّحاً أقصت الداخلية (18) مرشحاً، ثمّ قامت لجنة الإشراف بإسقاط (73) مرشّحاً آخر على ضوء الوثائق التي حصل عليها الطلبة الذين احتلوا السفارة الأميركية، وبعدها بمدّة وجيزة أُسقط ترشيح جلال الدين فارسي للشك بأصالة جنسيته وأنه فعلاً إيراني وليس أفغانياً، ومن بعده مسعود رجوي زعيم منظمة «مجاهدي خلق» لتستقرّ المنافسة نهاية المطاف بين سبعة مرشحين بارزين، هم أبو الحسن بني صدر وأحمد مدني وحسن حبيبي وداريوش فروهر وصادق طباطبائي وكاظم سامي وصادق قطب زاده.
لم يكمل بني صدر دورته في الرئاسة، فما لبث أن صوّت البرلمان بعزله لعدم أهليته السياسية، لتجري الانتخابات الرئاسية الثانية في تموز 1981م، وهي الانتخابات التي شهدت قبول (71) مرشّحاً، حذفهم مجلس (نگهبان) جميعاً، إلا أربعة نفر هُم حبيب الله عسكر اولادي وعلي أكبر برورش وعباس شيباني وأخيراً مرشّح الحزب الجمهوري الإسلامي محمد علي رجائي، الذي فاز بالرئاسة. لكن لم يهنأ له المقام في موقعه، إذ قضى بانفجار بعد شهر من انتخابه، ليفتح المجال للرئاسة الثالثة التي ترشّح فيها (46) مرشحاً، رفض (نگهبان) منهم (42) أي ما نسبته 91 ٪ وأبقى على أربعةٍ فقط، صعد إلى الرئاسة من بينهم المرشد الحالي السيد علي خامنئي.
الدورة الرئاسية الرابعة كانت أشبه بالاستفتاء منها إلى الانتخابات، عندما رفض مجلس حماة الدستور (نگهبان) (47) مرشّحاً من مجموع (50) وفتح طريق التجديد للسيد خامنئي عام 1985م، بتنافس شكلي مع مرشحَيِن ثانويين.
 
هندسة الانتخابات
برز دور مجلس (نگهبان) واضحاً في هندسة الانتخابات الرئاسية الخامسة، عندما رفض ترشيح (77) مرشحاً للرئاسة، وأبقى على اسمين فقط هما هاشمي رفسنجاني وعباس شيباني، فاتحاً الطريق إلى فوز لين وسهل حقّقه رفسنجاني في انتخابات 1989م، من دون منافس، وهو الأمر الذي تكرّر في الانتخابات السادسة عام 1993م، بالتجديد لرفسنجاني، بعد أن أسقط (نگهبان) أهلية (234) مرشّحاً وأبقى على أربعة فقط، من مجموع (238) مرشحاً.
الانتخابات السابعة عام 1997م شكّلت انتكاسة كبيرة بل هزيمة قاسية، لا تزال آثار مرارتها ماكثة في الحياة السياسية الإيرانية، فبينما كانت هندسة النظام متجهة إلى تحقيق فوز مؤكد لناطق نوري، قام مجلس خبراء الدستور بإلغاء ترشيح (234) مرشّحاً من مجموع (238) وأبقى لتجميل الصورة على ثلاثة فقط، إلى جوار مرشحه الأساس ناطق نوري، من بينهم محمد خاتمي، الذي حقّق فوزاً كاسحاً لم يتوقعه حتى هو نفسه. 
في الدورة الثامنة لعب مجلس الخبراء بشكل عكسي، عندما أغرق الساحة بأكبر عدد من المرشحين أقرّه في تأريخ الرئاسيات الإيرانية، فمن مجموع (814) مرشحاً سمح لتسعة مرشحين بخوض الانتخابات، لكي يأكلوا من جرف خاتمي، ويشتّتوا أصوات قاعدته الشعبية، ليمنعوا فوزه، أو يقللوا من أصواته، كان من بينهم أسماء لامعة مثل أحمد توكلي وعلي شمخاني وعلي فلاحيان، لكن باءت جميع هذه الجهود بالفشل، عندما جدّد الإيرانيون ثقتهم بخاتمي، بعدد من الأصوات فاق بمليون ما حصل عليه في رئاسته الأولى.
 
نجاد ورفسنجاني
دخل مجلس خبراء الدستور على خطّ هندسة الانتخابات في الانتخابات الرئاسية التاسعة، وكان المطلوب منع هاشمي رفسنجاني من الصعود للرئاسة، وتمهيد الطريق إلى محمود أحمدي نجاد. في الطريق إلى ذلك حذف (نگهبان) (1008) مرشّحين من مجموع (1014) وزجّ بأسماء مهمّة للتقليل من فرص فوز رفسنجاني، منهم مهدي كروبي وعلي لاريجاني ومصطفى معين ومحمد باقر قاليباف، بينما كانت البوصلة تتجه صوب رئيس بلدية طهران محمود أحمدي نجاد، الذي استطاع هزيمة رفسنجاني في الدورة الثانية من الانتخابات، قبل أن يتكرّر المشهد نفسه في الانتخابات العاشرة، لكن هذه المرّة بهندسة انتخابية تُؤمّن فوز نجاد بالرئاسة للمرّة الثانية، وهذا ما حصل فعلاً بعد رفض (نگهبان) أهلية (471) مرشحاً، مبقياً على (4) فقط هم مير حسين موسوي ومهدي كروبي ومحسن رضائي، أخطرهم مرشح الحركة الخضراء موسوي، الذي رفض وزميله كروبي الإذعان للنتائج، متهماً مؤسّسات بلده بالانحياز المبرمج وهندسة النتائج والتزوير، ما جعله يدفع الثمن وكروبي تحت طائلة الإقامة الجبرية، منذ ما بعد انتخابات 2009م حتى اللحظة.
رشّح في الانتخابات الحادية عشرة (686) مرشّحاً من بينهم (37) شخصية بارزة، انتهى الأمر نهاية المطاف برفضهم جميعاً، سوى سبعة نفر، وكانت الصدمة شبه المتوقّعة رفض أهلية هاشمي رفسنجاني، وهو الأمر الذي حدث مع رئيس آخر هو محمود أحمدي نجاد في انتخابات الدورة الثانية عشرة عام 2017م، التي شهدت ترشيح (1499) رجلاً، إلى جوارهم (137) امرأة؛ رُفضوا بأجمعهم بمن فيهم الرئيس السابق نجاد، لتتركّز المنافسة بين روحاني، والمرشّح الذي يرغب به النظام إبراهيم رئيسي، عندما سجّلت النتائج فوزاً متقدّماً لروحاني، من المرحلة الأولى بكسبه 57٪ من الأصوات. رغبة النظام في الانتخابات المرتقبة يوم الجمعة 18 حزيران الحالي، هو فوز رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي بالرئاسة، وقد كان لمجلس خبراء الدستور دوره في هندسة المشهد باتجاه تحقيق هذه الرغبة، عندما أزاح من طريقه أخطر منافسيه علي لاريجاني ومحمود احمدي نجاد واسحاق جهانگيري، وبدرجة أقلّ محسن هاشمي رفسنجاني
وعلي مطهري، برفضه أهليتهم تاركاً المجال مفتوحاً لفوز سهل ومترقّب، لا يعكره سوى احتمال واحد يتحوّل فيه الجنرال محسن رضائي إلى منافس خطير، تلتف حوله الجماهير وتصوّت له، لتُكرّر ما حصل مع خاتمي في انتخابات 1997م. وهذا الاحتمال وإن كان إمكان تحقّقه ضئيلاً، لكن لا ينبغي أن نستبعده تماماً.