د. مصطفى الناجي
منذ زمن ليس بالبعيد، كان بإمكان العراق تجاوز العديد من الأزمات والمنعطفات التي اثقلت كاهله. اذ يمتلك من المقومات ما يجعل التهديدات التي تحيط به إلى فرص تنموية ناهضة. ففي السنوات الأولى للاحتلال الاميركي للعراق طرحت وثيقة العهد الدولي عام 2010 التي وضعت على الرف، من دون ان يلتفت اليها احد في ما بعد، ومن ثم اسهمت ظروف داخلية وخارجية على تعطيل نهوض العراق بعرقلة إقرار قانون البنى التحتية عام 2013، ثم منح العراق فرصة مفصلية اخرى عن طريق الصين عام 2019 والتي تم وأدها ايضا. ويبدو ان كل ما سبق وغيره سيحكم عليه بالفشل او العرقلة ما دامت ذات الظروف والمصالح السياسية تتحكم بآليات العمل، وعلى هذا الاساس يمكن طرح مخرج يساعد على تحقيق التنمية والنهوض الاقتصاديين وتحقيق السلام، من خلال فك الارتباط ما بين ماهو سياسي وما هو اقتصادي، في عملية تستلهم من قيام الاتحاد الاوربي رغم كل التقاطعات درسا للعمل.
الاتحاد الأوروبي في جوهره مبادرة للسلام، بعد ان شهدت البلدان الأوروبية حربين مدمرتين الأولى والثانية، وكان بالإمكان ان تبقى ألمانيا منبوذة ومحاربة داخل وخارج اوروبا، وكل الظروف كانت مهيأة لتحميلها تبعات تلك الحروب ولن يعترض احد على اي اجراء «انتقامي» ضد ألمانيا.
كل ذلك دفع عددا من السياسيين في فرنسا - اكثر دولة تضررت من ألمانيا - ومن بين ابرزهم روبرت شومان وزير خارجية فرنسا، والمستشار الالماني كونراد ايدناور، ورئيس وزراء بريطانيا وينستون تشرتشل إلى التفكير الجدي في سحب ألمانيا نحو التعاون الاقتصادي والمستدام وربطها بسلاسة مع المحيط الاوروبي، ووضع التعاون بدل الصراع من خلال وضع صناعة الفحم والصلب تحت الرقابة التعاونية، والسبب في اختيار هذا القطاع من الصناعات لضمان عدم توجه ألمانيا نحو التصنيع الحربي اولا، وتوجيه الاقتصاد الالماني نحو التنمية الاقتصادية ثانيا.
من هذه البداية تأسست الجمعية الأوروبية للفحم والصلب «ECSC» عام 1951 والتي ضمت ابتداء دول ألمانيا وفرنسا وإيطاليا ودول البينيلوكس «بلجيكا، هولندا، لوكسمبورغ» والتي ستتطور في ما بعد لتكتمل في صورة الاتحاد الاوروبي الحالي المكون من 27 دولة بعد خروج بريطانيا العام الماضي في ما عرف ببريكست.
بهذه الطريقة استطاعت اوروبا مساعدة ألمانيا للجنوح نحو السلام وتوجيه مواردها للتنمية الاقتصادية، وبعد نصف قرن من ذلك العمل، أصبحت ألمانيا أقوى اقتصاد في اوربا، ونواة للاتحاد الاوروبي والسوق الأوروبية المشتركة، من دون ان تصنع دبابة او مدفعا عملاقا.
كيف يمكن أن نستفيد من التجربة الأوروبية؟
يجب اولا العمل على فصل السياسة عن الاقتصاد، وهي عملية تبدو صعبة للغاية، لكنها ليست بالمستحيلة، وبالامكان البدء بمشروعات بسيطة تجمع ما بين دول الجوار العراقي، ثم تنمية تلك المشاريع شيئا فشيئا لتصبح نواة للتعاون الاقتصادي. فالزراعة والمياه والنفط والعنصر البشري عوامل يمكن من خلالها الشروع بتفاهم يجمع ما بين تلك البلدان، وإذا كان من الصعوبة جمع كل دول الجوار في مشروع واحد، فيمكن الانطلاق بتفاهم ثنائي او ثلاثي، كأن يكون بين العراق وسوريا والأردن، او بين العراق والكويت وإيران، او بين العراق والسعودية وتركيا، وحينما تجني دول الاتفاق المكاسب الاقتصادية، فانها ستلهم الدول الأخرى على الدخول في هذه الشراكة لتقاسم مزايا التعاون الاقتصادي. ان ما نكتبه الان قد يبدو بعيد التحقق، وقد تتجمع امام هذا المشروع الاختلافات السياسية والمذهبية والعقائدية وغيرها، وقد تعمل دول أخرى على محاربة اي تقارب بين تلك الدول، ولكن للاقتصاد «سحرا» قادرا على تذويب اي اختلافات من هذا النوع، ومثلما أنهت الجمعية الأوروبية للفحم والصلب صراعا دمويا دام قرونا من الزمان، فيمكن لنواة التعاون المشترك للعراق مع دول الجوار، أن ينهي قرونا اخرى من الصراع والعنف.