هل تقلل الأضواء الزرقاء حالات الانتحار؟

بانوراما 2019/02/16
...

كريس بارانيوك
ترجمة: بهاء سلمان
في العام 2013، تم نشر بحث علمي صار بذرة لآلاف قصص الأخبار المنتشرة كالعدوى الفيروسية ومواقع التواصل الاجتماعي. كان مقترح البحث مذهلا: الأضواء الزرقاء في محطات القطار منعت حالات الانتحار بتلك الأماكن، وأوضح العلماء ان النسب انخفضت بمقدار كبير بلغ 84 بالمئة.
تم استيعاب الفكرة منذ ذلك الحين، لتلهم مشاريع مماثلة في العديد من الدول الأخرى، لكن مع اهتمام الكثيرين فقط بالقصص العلمية المعقدة، فان بعض التفاصيل أصابها بعض التحريف أثناء مسيرة البحث. بدأ الأمر برمته في أواخر العقد الأول من القرن الحالي، حينما شرع عدد من شركات السكك الحديد اليابانية بتنصيب مصابيح زرقاء فوق أرصفة محطات القطارات. كانت محاولة لثني الناس من الانتحار في مثل هذه الأماكن، أطلق عليها اصطلاحا باسلوب "الوكزة"، وهي من ضمن وسائل السلوك التأثيري، وبرغم كونها رقيقة بشكل واضح، فلديها تأثيرات كبيرة بشكل مثير.
تكمن الفكرة في أمكانية حمل الضوء الأزرق لتأثيرات على الحالة العقلية للناس؛ ودعمت احدى الدراسات التي أجريت سنة 2017 هذه النظرية، وأظهرت عودة الأفراد المتعرّضين الى ضغوط نفسية الى حالة من الاسترخاء عندما يضطجعون في غرفة يغمرها الضوء الأزرق.
وسمعت "ميتشيكو يويدا" من جامعة واسيدا بتجارب شركات السكك الحديد في أرصفة المحطات، واخبرت عن تحقيق المصابيح لنجاح. درست يويدا مدى هائلا من العوامل التي ربما تؤثر في معدلات الانتحار باليابان، من الاقتصاد الى الكوارث الطبيعية، وحتى النقاش حول انتحار المشاهير على تويتر، لكنها تقول ان رد فعلها لمزاعم شركات السكك الحديد كان التشكيك بها: "اعتقدت بوجوب تتبعنا للموضوع، وقررت الاتصال بالشركة لمعرفة ان كان يمكنهم تزويدنا بالبيانات."
وبعد تحليل بيانات لعشر سنين من حالات الانتحار في 71 محطة قطار باليابان، وجدت يويدا وزملاؤها دليلا لتأثير ما على الركاب، فقد لاحظوا انخفاضا بنسبة 84 بالمئة، وهو رقم تم نشره بسرعة. لسوء الحظ، هذا لم يكن كامل القصة؛ فعندما ظهرت تقارير الأخبار حول النتائج، نظر "ماساو ايتشيكاوا" من جامعة تسوكوبا نظرة مختلفة للبيانات، فقد حدد أنه من المهم التفريق بين البيانات المجمعة خلال النهار وخلال الليل في محطات القطار الخارجية؛ فخلال النهار، ربما يكون من السهل تجاهل الأضواء، أو حتى اطفاؤها.
 
بحوث ونتائج
ودقق ايتشيكاوا أيضا بقياس يعرف ب"فاصل الثقة"، فالتحليلات الاحصائية تحمل دائما غموضا متأصلا حول نتيجة محددة، مثل حجم هذا التأثير، وفاصل الثقة يعبر عن المدى الممكن لتلك القيم. ولاحظ ايتشيكاوا ان الثقة في بحث يويدا كانت واسعة جدا، فمن 14 الى 97 بالمئة تعد نسبة "غير مستقرة بشكل كبير من الناحية الاحصائية،" بحسب قوله. معنى هذا احتمال كون التأثير الواقعي قد بلغ تدنيا وصل الى 14 بالمئة، وهو لا يزال يمثل تغييرا بارزا، لكن ليس بالحجم الكبير الذي أوحت به التغطيات الاعلامية.
ويأمل ايتشيكاوا عدم ضمانة دراسته لشروع الناس بالتفكير لامتلاك الضوء الأزرق رادعا اعجازيا، وحمله لتأثير استثنائي بطريقة ما على الناس الذين يفكرون بالانتحار. ويمكن لتنصيب حواجز وقائية وأبواب الشاشات على طول حافات الأرصفة أن يكون أكثر نفعا من الأضواء الزرقاء، وربما تكون النفقات المصروفة عليها تستحق اذا ما ظهر ضآلة تأثيرات الضوء الأزرق.
ومنذ نشرها لبحثها، اندهشت يويدا لعدد الاستفسارات التي تتلقاها من شركات السكك الحديد حول العالم، وبضمنها سويسرا وبلجيكا وبريطانيا. بيد أن يويدا ليست مؤيدة لخطط الضوء الأزرق: "متى ما يسألني أحدهم أيهما أفضل لتنفيذه، الضوء الأزرق أم أبواب الشاشات، سأرد على الفور بضرورة وضع أبواب الشاشات للأرصفة."
وبينما تدرس يويدا مسألة التكلفة المتلعقة بأبواب الشاشات، تكرر القول بضرورة فهم أن تأثير الضوء الأزرق ربما يكون أكثر براعة مما يظنه البعض، ولا زلنا لا نعلم على وجه الدقة ماهية التأثير الذي نتلقاه من الأضواء. على سبيل المثال، لعل تنصيب أضواء جديدة براقة، بغض النظر عن اللون، تتسبب في جعل الناس يكونون أكثر ادراكا لأنفسهم، وبالتالي يغيّرون سلوكهم، كما تشير يويدا؛ وربما بعد فترة من الزمن، ستفشل الأضواء الزرقاء، التي من المفترض أن تكون مؤثرة في منع حالات الانتحار، ستفشل لأن الناس سيعتادونها.
 
آراء متباينة
وتعمل يويدا حاليا على دراسة حديثة لقياس التأثير النفسي للأضواء الزرقاء، لكن هناك بالفعل نتائج متشابكة لتلك النقطة من فرق بحثية أخرى، حيث تعطي الدراسة المذكورة آنفا مصداقية لفكرة كون الأضواء الزرقاء تبعث على السكينة، لكن "ستيفن ويستلاند"، خبير الألوان والتصاميم في جامعة ليدز، يقول : ان الأضواء ربما لا تؤثر في عامل مهم آخر، كالاندفاع المتهوّر. وتوصلت التجارب التي اجراءها "نيكولاس سيكون"، طالب الدكتوراه السابق لدى ويستلاند، الى ذلك، رغم قول المشاركين بشعورهم بالاندفاع الأكثر أو الأقل اعتمادا على الضوء الذي ينير الغرفة التي يكونون فيها، ولم توح القياسات السلوكية والعصبية بأية تأثيرات أعمق تذكر.
ويوضح ويستلاند قائلا: "لم نحظ حقا بأي دليل يؤكد أن الضوء الأزرق أو الأحمر يجل المرء أكثر تهوّرا." وبرغم اعتماد العلاج بالضوء لمداواة الاضطرابات العاطفية الموسمية، فهي ليست بالضرورة تتبع تلك التقلبات بالمزاج التي تؤثر في محاولة الانتحار: "لا توجد حلقة وصل حتمية لأية أفعال يقدم عليها الواحد منا."
كل هذا لا يمنع الناس من ابتكار وسائل تسهم في حل مشكلة الانتحار باليابان، فالبلد يعد من بين أعلى عشرين بلد في العالم بمعدلات الانتحار، وهي مشكلة تواجه العديد من الدول بشكل جدي وتكافح من أجل تداركها. وانخفض العدد الاجمالي لحالات الانتحار خلال السنوات الأخيرة الى حوالي 21 ألفا سنة 2017 من 34 ألفا سنة 2003، لكن العدد في تصاعد بين الشباب. يقول ايشيكاوا: "من الصعب وصف الحالة، فالأمر محزن للغاية."
ربما تمتلك الأضواء الزرقاء تأثيرا في الناس يفكرون مليا بالانتحار، لكن لليوم لم يعطنا العلم نتائج حاسمة نوعا ما، وكما تقول يويدا: "لا أريد من الناس حقا الاعتقاد بكون الأضواء الزرقاء هي الحل، وأكرر، على الناس توظيف وسائل متعددة، وأبواب شاشات الأرصفة ربما هي الأكثر فاعلية في محطات القطارات."
 
بي بي سي البريطانية