.د. إبراهيم خليل العلاف
وأنا أريد أنْ أكتب عن (خان قاسم اغا) في باب السراي بالجانب الأيمن من مدينة الموصل القديمة، كان لا بُدَّ لي أنْ أقفَ قليلاً عند خانات الموصل. وأقول إنَّ المؤرخين يسمون مدينة الموصل (كوجك اسطنبول) أي اسطنبول الصغيرة، والسبب في هذه التسمية أنَّ الموصل تضم عدداً كبيراً من الخانات والأسواق والقيصريات التي تشبه ما هو موجود في اسطنبول. فمدينة الموصل تحتل موقعاً جغرافياً ستراتيجياً مهماً على الطريق بين الخليج العربي والبحر المتوسط. وقد أشار الى أهمية موقعها هذا البلدانيون والجغرافيون العرب كما أشار الى ذلك الرحالة الأجانب.
ازدهار التجارة
والموصل، كما أنها مدينة زراعيَّة، فهي مدينة تجاريَّة ومدينة صناعيَّة ازدهرت التجارة فيها وتعاظمت واتسعت في القرن التاسع عشر بعد التطور الذي شهده العالم نتيجة للثورة الصناعيَّة، واتساع حركة الاستيراد والتصدير وقد أصبحت الموصل مركزاً من مراكز التجارة العالميَّة لهذا بنيت فيها الكثير من (الخانات) التي كانت تعدُّ بمثابة (فنادق) يأوي إليها التجار مع وسائل نقلهم آنذاك من جمال وخيول ودواب فكان في الخان طابقان، الطابق الأول يكون مأوى لوسائل نقل التجار، والطابق الثاني لسكنهم ومبيتهم.
ومن أبرز الخانات التي تضمها مدينة الموصل (خان المفتي، الباليوز، الصقالين، حمو القدو، الكمرك، عبو التوتونجي، الجلود، الدواب، الحجيات، القلاوين، السواد، الدقاقين، والشط (خان خواجه حنا)، الطمغة، الجمس، الحاج حسين بك، والخان الفوقاني ويقع فوق قيصريَّة الكونجيَّة (قيصريَّة العطارين)).
حقيقة التسمية
واليوم سأتحدث لكم عن (خان حاج قاسم اغا)، وكان هذا الخان من الخانات المهمة في الموصل يستخدم كفندق يأوي اليه التجار، والرحالة والمسافرون الذين يفدون الموصل، ويقع قرب سوق الفحامين وقبل أنْ يتعرض للتدمير خلال هجمة عصابات داعش الإرهابية ومعركة تحرير الموصل 2017 كان مخزناً للأقمشة والمواد البلاستيكيَّة. مساحته تقريباً (800 ) متر مربع وفيه حوش متوسط المساحة وعدد غرفه تقريباً كان بحدود (30) غرفة.
ومما جعلنا نهتم بهذا الخان، هو أنَّه حظي بالتعمير والتجديد وتم افتتاحه يوم السبت 12 من كانون الأول سنة 2020، ومن خلال اللوحة التي وُجدت على جداره نعرف أنَّ من جدده وعمَّره هو السيد وضاح عبد الرحمن بك الجليلي سنة 1441 هجرية أي سنة 2020 ميلادية أي في السنة الفائتة.
وكثيرون يرون أنَّ تسميته تعودُ الى أحد أبناء الأسرة الجليليَّة، وهو قاسم اغا، لكنَّ الحقيقة أنَّ التسمية تعود لمؤجره ومستخدمه الأول الحاج قاسم اغا الكردي، لكنَّ مالكيه الحقيقيين هم (آل الجليلي) الأسرة الموصليَّة العريقة التي حكمت الموصل بين سنتي (1726 – 1834) ميلاديَّة، وكانت لها أيادٍ بيضاء على المدينة فضلاً عن أنَّ الحاج حسين باشا الجليلي والي الموصل قادَ حركة المقاومة ضد حصار ناد رشاه لها سنة 1743 وتم له النصر كما هو معروف.
3 قرون
أعود الى خان الحاج قاسم اغا الكردي، فأقول إنَّ هذا الخان الكبير، شيد سنة 1164 هجرية أي سنة 1750 ميلادية، وعمره عند كتابة هذه السطور (270) سنة أي قرابة ثلاثة قرون وقد جدد أكثر من مرة، وخلال سنوات متفاوتة، وبالشكل الذي جعله قائماً ومحافظاً على ريازته المعماريَّة. والخان مؤلف من طابقين، وهو في هذا يشبه الكثير من الخانات كخان حمو القدو، والخان يتوسط منطقة الأسواق التقليديَّة القديمة التاريخيَّة في الموصل وسوق باب السراي في الموصل القديمة بالقرب من جامع الباشا مركزها وقلبها الحيوي.
كان الطابق العلوي يضم عدداً من الغرف للاستراحة ومبيتاً للتجار والمسافرين والرحالة الذين كانوا يفدون الى الموصل. أما الطابق الأرضي فهو مؤلف من دكاكين كانت تُشغل من قبل تجار تصدير المواشي والحبوب.. ومن الطريف أنَّ الخان في مطلع القرن العشرين تخصص بتجارة وبيع وشراء الشاي والسكر.
إعادة بنائه وتعميره
إنَّ ما يفرح أنني كثيراً ما سمعت من أبناء الأسرة الجليليَّة اليوم أنهم عازمون على إعادة بناء وتعمير الكثير من ممتلكاتهم سواء كانت من الجوامع أو من الأسواق والخانات، لهذا فعندما قررت الأسرة إعادة تعمير خان الحاج قاسم اغا أصرت على أنْ يعاد وفق الأسس والعناصر المعماريَّة والآثاريَّة التي كان يتميز بها من قبل مع إضافة لمسات عصريَّة عليه، وهكذا بُعث الخان بحلة معماريَّة تسر الناظرين وتبهج القلب وتنعش الذاكرة التاريخيَّة، وتؤكد على أنَّ آل الجليلي يظلون عنواناً ورمزاً لأصالة وعراقة هذه المدينة وصمودها بوجه المحن، وكم أنا سعيد وفرح بهذا، ويقينا إنَّ أهالي الموصل والخيرين في كل مكان ابتهجوا كثيراً بتعمير وافتتاح خان الحاج قاسم اغا وأصبح الخان بمرافقه الجميلة وفنائه وطرزه المعمارية ودكاكينه و(كافتيريته الانيقة العصرية)، مكاناً لالتقاط الصور الفوتوغرافيَّة، وقد سعدت كثيراً عندما رأيتُ عدداً من خريجي كلية طب الأسنان – جامعة الموصل وطلبة كليات أخرى، يقيمون جلسات تصوير في أروقته وبين جنباته الجميلة وأواوينه.