الصناديقُ السياديَّة ودورُها في التنمية الوطنيَّة
اقتصادية
2019/02/17
+A
-A
فارس آل سلمان
بعد انتصار إرادة الشعب ودحر الإرهاب، نجد أنَّ الاقتصاد العراقي منهكٌ بسبب تمويل العمليات العسكرية وانخفاض أسعار النفط والضعف في إدارة اقتصاد البلد، فضلاً عن وجود الفساد. لذا أصبح من الواجب إعادة بناء الاقتصاد العراقي وفق رؤية واضحة وأسس تنمويَّة صحيحة تحقق العدالة الاجتماعيَّة وتنشط القطاعات الإنتاجيَّة والخدميَّة وتؤهل وتنمي البنى التحتية وتسهم في تحقيق زيادة متسارعة في الناتج المحلي وتنوع الاقتصاد وتخلق فرص عمل تستوعب الطاقات الشابة في المجتمع.
وقد لوحظ وجود توجه دولي لتأسيس الصناديق السياديَّة الفاعلة والكبيرة لتعزيز فكرة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بهدف ضخ استثمارات ستراتيجيَّة مباشرة في القطاعات الاقتصاديَّة المختلفة، في أنشطة القطاع العام والمختلط والخاص، لا سيما أنَّ الهدف الرئيس للصناديق السياديَّة العراقيَّة المقترحة يجب أنْ يكون باتجاه التركيز على السوق الداخلية وتنمية الاقتصاد الوطني.. وبذلك تحقق الصناديق عائداً اقتصادياً ومالياً واجتماعياً محلياً يضع البلد على طريق التنمية المستدامة والشاملة، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية التفكير بالاستثمار الخارجي فقط عند الاكتفاء من الاستثمار في الاقتصاد المحلي وبهدف تنويع المحفظة الاستثماريَّة وبهدف خلق أدوات نفوذ.
هناك تجارب دوليَّة ناجحة بهذا المجال وهي صناديق التنمية الآسيويَّة التي ركزت على تنمية الأسواق الداخليَّة من خلال النهوض بقطاع التصنيع ثم توجهت بعد ذلك الى قطاع الخدمات.
وكرؤية نرى أنْ يكون ضمن أهداف الصناديق السيادية إنقاذ وتنمية الشركات الحكوميَّة والمختلطة وتطويرها، فضلاً عن مساعدة القطاع الخاص في بناء شركات مستدامة، علما أنَّ الصناديق السياديَّة في دول مجلس التعاون الخليجي ضخت مؤخراً مبلغ (60) مليار دولار تمويلاً استثمارياً في مشاريع تنمويَّة محليَّة.
تتلخص فكرة هذه الصناديق، في تسهيل تدفق الاستثمارات بعد بناء ثقة المواطن بمنظومة إدارة الدولة وبالنظام المالي والنقدي، بحيث تتدفق هذه الاستثمارات عبر جهاز استثماري حكومي يتمتع بعقلية تجاريّة علميَّة وبمرونة عالية تتماشى مع حاجة السوق.
وهناك حزمة من الصناديق السياديَّة التي نرى انه من الواجب تأسيسها لتنظيم الاقتصاد العراقي، من خلال الاستحداث أو الدمج أو(Joint Ventures) .
مشاريع المشاركة
1 - صندوق المستقبل السيادي (صندوق الفوائض):
يموَّل هذا الصندوق باستقطاع 5 بالمئة من إيرادات النفط والغاز المقترحة ومن عائدات العتبات المقدسة والأوقاف وإيجارات عقارات الدولة وبيع العقارات الحكوميَّة على اختلاف عائدياتها، كما تدخل فيه كأصول ثابتة جميع أملاك الأوقاف والعتبات وأمانة بغداد وعقارات
الدولة.
يضمن هذا الصندوق حقوق الأجيال القادمة بالثروة الناضبة، فضلا عن كونه احتياطياً سيادياً يدعم الحكومة والصناديق السياديَّة الأخرى، على أنْ تستثمر في تمويل المشاريع الستراتيجيَّة التي تسهم في تعزيز البنية التحتيَّة والخدمات وتنويع الاقتصاد وتحسين الناتج المحلي واستغلال الموارد الطبيعيَّة، بما يضمن المستقبل المزدهر للأجيال القادمة ويسهم في تمويل المشاريع الكبرى بالتنسيق مع المصارف القطاعيَّة.
يهدف الصندوق كذلك الى سد عجز الموازنة وتحقيق سعر صرف ثابت للعملة الوطنية ولمواجهة الصدمات الاقتصادية والطوارئ والكوارث والحفاظ على استقرار الاقتصاد.
2 - صندوق الضمان الاجتماعي:
نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948 على أنَّ الرعاية الاجتماعية حقٌ من حقوق الإنسان، وتؤكد المادة 22 على وجوب تقديم الإعانات في حالة المرض، حوادث العمل، فترة الرضاعة، إعانات العائلات لإعالة الأطفال
والسكن.
إنَّ الغاية من تأسيس هذا الصندوق هو تحقيق السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي والقدرة على العيش المشترك والحصانة الأمنيَّة وتماسك المجتمع وتعزيز شعور الانتماء للمجتمع والوطن.
يشمل هذا الصندوق كل مواطن ليس له وليٌّ في المجتمع (بمعنى ان يدخل صندوق رعاية القاصرين تحت هذا الصندوق)، فضلاً عن أصحاب الرواتب والمعاشات الأساسيَّة (بمعنى ان يدخل صندوق التقاعد تحت هذا الصندوق) كما يشمل المعاقين، الأسر الكبيرة المحتاجة، من لا يكفيهم راتب التقاعد، المستحقون تحت خط الفقر، ضحايا
الكوارث.
يمول الصندوق من أموال صندوق رعاية القاصرين في ما يخص القاصرين/ أموال صندوق التقاعد في ما يخص المتقاعدين/ أموال صندوق شهداء الشرطة، في ما يخص عائلات شهداء الشرطة/ وجميع صناديق الإعانات الأخرى في الدولة (بحيث تكون جميع هذه الصناديق تقع تحت هيكليَّة صندوق الضمان الاجتماعي لكنها تحتفظ بخصوصية المستفيدين منها بهدف مركزيَّة المعلومات وترشيق الهياكل الإداريَّة)/ إيرادات الفعاليات الخيريَّة من حفلات والنشاطات والفعاليات الرياضيَّة والفنيَّة وغيرها/ عوائد استثمار واردات الصندوق/ عوائد الحج والعمرة/ أموال الزكاة/ التبرعات والهبات غير المشروطة.
من واجبات هذا الصندوق أيضاً متابعة توفير الخدمات الصحيَّة والتعليم والإسكان وغيرها، فضلاً عن تقديم المساعدات والإعانات المقطوعة في الحدود المرسومة ووفقاً للقوانين الى مؤسسات الرعاية الاجتماعيَّة، رعاية المعاقين، دور المسنين، دور الأيتام، دور الحضانة العامة والخاصة، مؤسسات رعاية المرأة. كما يقوم بتقديم رواتب ومكافآت استثنائيَّة أو إضافيَّة تُمنح للمواطنين الذين قدموا خدمات جليلة للوطن.
3 - صندوق بناء المدارس:
يرتبط هذا الصندوق برؤية وستراتيجيَّة البلد في إنشاء وتطوير المدارس والكليات على اختلاف مستوياتها وكذلك التطوير الشامل والمستدام للنظام التعليمي ويمول من نسبة من عائدات تصدير النفط تحدد بموجب تشريع إنشاء الصندوق، كما يمول من موارد كل محافظة والمتحصلة عن جميع عائدات الرسوم والمخالفات المروريَّة، رسوم الموازين الجسريَّة على الطرق السريعة، جزء من رسوم إنجاز المعاملات الرسميَّة في الدوائر الحكوميَّة، جزء من رسوم نقل ملكية العقارات والبيع والشراء في دوائر التسجيل العقاري وكتاب العدول، جزء من رسوم عائدات مزادات بيع أموال الدولة.
وهناك نموذج ناجح جداً ممكن الاستفادة منه كتجربة ناجحة وهو: صندوق مدرسة تكساس الدائم الذي تم تأسيسه في العام 1854م، ويعدُّ أقدم صندوق ثروة سياديَّة في العالم وتلخص هدفه في استثمار الأصول الثابتة للولاية والسماح لولاية تكساس بتمويل التعليم الابتدائي والثانوي العام في المستقبل وصدرت تشريعات لاحقة حددت استخدام اموال الصندوق لتمويل التعليم الابتدائي والثانوي حصراً، ثم أصبح هذا الصندوق مصدراً غير محدود لتمويل التعليم العام في الولاية، كما تم تقييد الإنفاق بالفائدة المستحصلة من توظيف أموال الصندوق
فقط.
4 - صندوق بناء المستشفيات:
يرتبط هدف تأسيس الصندوق مع رؤية وستراتيجية البلد في تطوير الخدمات الصحيَّة ويموَّل من نسبة تحدد ضمن التشريع من عائدات تصدير النفط، مهما كانت بسيطة، ومن عوائد مشابهة لصندوق بناء المدارس ويضاف إليه يا نصيب بناء المستشفيات (كان معمولاً به في بداية السبعينيات قبل تأميم النفط) إضافة الى جزء من عوائد التأمين الإلزامي على المركبات.
ملاحظات إضافية:
1 - يجب التهيؤ الى عصر ما بعد النفط من خلال تسخير موارد صندوق المستقبل السيادي واستشراق نظرة مستقبليَّة وتعزيز روح المواطنة وتمكين القطاع الخاص الحقيقي العراقي من المشاركة في قيادة عملية التنمية الاقتصادية وتحسين الفرص في القطاعات غير النفطية.
2 - تطوير المصارف القطاعيَّة لتمارس النشاط الاستثماري التنموي.
3 - دعم مبادرات القطاع الخاص التي تهدف الى تنويع مصادر الدخل والتركيز على المشاريع التنافسيَّة التي لها حاجة استثنائيَّة ودعم القطاع الخاص للاستثمار في القطاعات المختلفة بهدف خلق تنوع اقتصادي يسهم في خلق تنمية مستدامة.
4 - وجوب احترام الصندوق السيادي لمبادئ (سنتياغو) التي وضعتها مجموعة عمل دولية عام 2008 وتشتمل على وضع الإطار القانوني وأهداف كل صندوق وتناسقها مع السياسات الاقتصاديَّة الكلية/ الإطار المؤسساتي والحوكمة/ إطار الاستثمار وإدارة المخاطر.
ومن سياسات الصناديق السياديَّة التنموية ما يلي:
أ- شراء الأوراق المالية والاحتفاظ بها لمدة طويلة وتسمى (اشتري واحتفظ).
ب- منح فرصة لنمو المؤسسات من خلال شراء أسهمها وبذلك تطور خطوط إنتاجها والتحول الى السير في نهج التنمية المستدامة.
ج- تمويل المشاريع الكبرى في البلد.
5 تجارب دولية :
أ- صندوق كيبيك للتنمية في كندا:
عانت مقاطعة كيبيك الكندية من مديونيَّة كبيرة، فضلاً عن فجوة استثماريَّة ضخمة في مجال البنية التحتية، تم إنشاء هذا الصندوق وتمويله من صندوق الرواتب والمعاشات الرئيس في المقاطعة، وهو نموذجٌ متكاملٌ لعقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجال (التصميم والبناء والتمويل والتشغيل والصيانة ونقل الملكية) وتسمى (دي بي اف او ام تي). ويقوم القطاع الخاص باختيار المشاريع ويقترح الحلول وهذه المشاريع المختارة يتم حذف تمويلها من موازنة الحكومة وبذلك يتم تخفيف العبء عن
الحكومة.
ب- توسعة الطريق السريع رقم 33 في هولندا:
تحاول الحكومة الهولندية توسعة إحدى الطرق السريعة وتبين أنه لا يوجد تخصيص لهذه الفقرة في الموازنة العامة للدولة، لذا تم إنشاء شركة بين القطاع العام والخاص وأخذت هذه الشركة قرضاً من صندوق المعاشات والرواتب يدعم رأسمال الشركة لتنفيذ التوسعة في الطريق على أنْ يتم تسديد قيمة القرض وفوائده من جباية رسوم المرور على الطريق، وستعلن مناقصة سيفوز بها تحالف شركات (كونسورتيوم) يقوم
بالتنفيذ.
رئيس الهيأة الإداريَّة لمنتدى بغداد الاقتصادي