تأثير غاندي في الهند يتضاءل
بانوراما
2019/02/18
+A
-A
جيفري غيتلمان
ترجمة: مي اسماعيل
لا يزال المهاتما غاندي شخصية مؤثرة في الغرب؛ حتى بعد وفاته باحدى وسبعين سنة. لكن المجتمع الهندي بات يُنظر إليه على أنه ضعيف وغير "محبذ" سياسياً. بقيت خطوات غاندي الاخيرة مطبوعة في الكونكريت؛ خارجة من المنزل الابيض الى البقعة التي استنشق فيها آخر انفاسه.. في أحد ايام الشتاء المعتدلة مشى "موهنداس كي غاندي" (المعروف عموما باسم التوقير والاحترام: مهاتما غندي؛ ويعني: الروح الكبيرة) ببطء عبر الحديقة الفخمة لاحد مباني العاصمة نيودلهي مستندا على أكتاف مساعدتيه.. وهناك حيّاهُ قاتله ولمس قدميه توقيرا؛ ثم أطلق ثلاث رصاصات على صدر الرجل النحيل ذي الثمانية والسبعين عاما..
تحول المنزل الذي قضى فيه غاندي أيامه الاخيرة والارض المحيطة به (حيث سقط قتيلا) الى نصب تذكاري لحياته وموته العنيف. ويمكن الدخول اليه من الشارع مباشرة؛ دون تفتيش ولا دفع تذاكر.. بحرية تامة؛ ربما كما كان غاندي يأمل ذلك.. ولعل ذلك المكان (نصب ضريح غاندي-Gandhi Smriti) هو الافضل لتأمل ارث احدى الشخصيات العظيمة في التاريخ. لا يزال إرث غاندي (بعد 71 سنة من اغتياله) هائلا حول العالم، وسمعته (كقوة داعية الى الخير) أمر لا يُمس. كان من القلائل عبر التاريخ الذين سخروا أخلاقيات المقاومة السلمية لانتشال الهند من براثن الامبراطورية البريطانية. وكان المثل الذي ضربه عمّا يمكن تحقيقه بالاحتجاج السلمي إلهاما لعدد لا يحصى من الناس؛ لدى ثقافات وأزمان متنوعة؛ من مارتن لوثر كنغ الابن الى الرجل الذي جابه الدبابة في ميدان تيانان مين بالصين. وما زالت الهالة المحيطة بشخص غاندي مضيئة في أغلب دول العالم؛ حتى دخولنا القرن الحادي والعشرين؛ وقد اعتبره الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ضيف الاحلام في البيت الابيض. لكن غاندي لم يعد تلك الشخصية التي تثير الخشوع أو الحضور المؤثر داخل الهند المعاصرة؛ إذ يبدو أن تأثيره فقد (بمرور الزمن) تناغمه مع السياقات السياسية الهندية السائدة؛ رغم أن السياسيين كثيرا ما يستغلون نغمة الحنين الى غاندي.
بطل الهند الحقيقي
يقول "برابتا ميهتا" (استاذ العلوم السياسية والمستشار بجامعة آشوكا والرئيس السابق لمركز بحوث السياسات في نيودلهي): "أخشى ان غاندي صار شخصية هامشية؛ فالمجتمع الهندي الحديث يضم قوتين سياسيتين مهيمنتين تكرهان هذا الزعيم". يرى البعض من القوميين الهندوس (وهم جزء من القاعدة الديموغرافية التي تتولى قيادة حزب بهاراتيا جاناتا الهندي الحاكم) أن غاندي كان شخصا ضعيفا (حسب تحليل "ميهتا")؛ وما زال دعاة التفوق الهندوسي المتعصب غاضبين عليه لأنه عبر عن الكثير من التعاطف مع الاقلية الهندية المسلمة، ولسماحه بانفصال الباكستان عن الهند. ومضى بعضهم الى حد اقامة تماثيل لقاتل غاندي "ناتهورام جودسى"؛ الذي كان ذات يوم عضوا لجماعة قومية هندوسية ينتمي لها رئيس الوزراء "ناريندرا مودي" والعديد من حلفائه السياسيين. ويقول بعضهم أن "جودسى" هو بطل الهند الحقيقي. ولا يحظى غاندي أيضا بالقبول لدى طبقة "الداليت" (المنبوذون)؛ احدى الطبقات التي وضعها التقسيم الطبقي الصارم في قاع المجتمع الهندوسي منذ قرون؛ والذين باتوا اليوم (بتعداد يزيد على مئتي مليون نسمة) يتمتعون بثقل سياسي كبير. كان غاندي متعاطفا مع الفقراء، بضمنهم الداليت، فقد احتج ضد الاستغلال وعاش ناسكا تقريبا؛ يرتدي مئزرا أبيض بسيطا ولا يأكل الا القليل. ويضم معرض مقتنياته الشخصية (عند النصب التذكاري حيث اغتيل) ما تركه غاندي من ممتلكات دنيوية: نظارة، وملعقة، وساعة جيب، وحجر خفاف لتنظيف الجسم.
توظيف الرمز السياسي
يستغرب البعض أن غاندي (بكل التزامه برعاية الفقراء) كان يقيم في مسكن فاخر بُني سنة 1928 لأحد الصناعيين الهنود الأوائل (ممن صنعوا ثروتهم من تجارة الجوت وعرق الآخرين). لكن غاندي كان قريبا من بعض أغنى رأسمالي الهند؛ وقد اعتاد سكن تلك الدار حينما يزور دلهي. لعل تعامل غاندي مع النخبة الهندية كان أحد أسباب التقييم القاسي الذي أصدره الداليت واليسار السياسي عليه؛ فقد اعتبروا أنه لم يقم بما يكفي لتفكيك النظام الطبقي القاسي الذي تعانيه الهند. ورغم انه دعم الطبقات السفلى من المجتمع؛ لكن ناقديه يرون أنه لم يُشكك أصلا بقوة بذلك النظام. ويمضي الاستاذ "ميهتا" قائلا: "أنهم يعتقدون أنه لم يكن راديكاليا بما فيه الكفاية عند دعوته لاعتاق الداليت".
فبعد نحو ثلاثة أرباع القرن من نيل الهند استقلالها بمساعدة غاندي؛ لا يزال أفراد الطبقات السفلى بالمجتمع الهندي يتعرضون للتمييز بصورة علنية صادمة. وقد تعرض أحدهم مؤخرا للتعذيب لمجرد مطالبته بإجوره المشروعة. رغم الانتقادات؛ مازال سياسيو الهند من جميع الاتجاهات يتبارون غالبا باستخدام "غاندي" رمزا سياسيا حينما يناسبهم ذلك؛ خاصة الحزب الذي بقي غاندي مرتبطا به حتى اليوم.. إذ كان من أوائل اعضاء "حزب المؤتمر" المعارض، وقد ساهم بتحويله من نادي مناظرة للنخبة إلى قوة وطنية. كثيرا ما يضع سياسيو "المؤتمر" صورته على لافتاتهم؛ خاصة حينما ينظمون اضرابات عن الطعام على غرار ما كان يفعله الزعيم. كما "توظف" حكومة "مودي" أحيانا رمزية غاندي؛ برغم رفض القوميين الهندوس. فلا يكاد المرء يمر بإحدى قرى الهند الآن دون رؤية رسم يمثل نظاراته المجردة الشهيرة (من السلك الاسود) مطبوعا على الجدار. والتي باتت رمزا لأكبر برامج مودي الاجتماعية: "الهند النظيفة".. وهي حملة أنتجت حتى الآن نحو مئة مليون وحدة مرافق صحية جديدة (وفق احصاءات الحكومة). ولا تزال ذكرى ولادة غاندي في الثاني من تشرين الاول (الذكرى 150 هذه السنة) واحدة من العطل الوطنية بالهند، وكذلك تبدو تماثيله منظرا مألوفا خلال مسيرة يوم الجمهورية وسط العاصمة (26 كانون الثاني).
أرث محط جدل
لا يُفاجئ هذا التصرف، المتناقض تجاه إرث غاندي، واحدا من أشهر كتاب سيرته الذاتية؛ "راماتشاندرا جها"؛ الذي يقول: " سيبقى إرث غاندي؛ مثل تشرشل ونابليون وماو ولينكولن وغيرهم من الشخصيات العظيمة؛ محط جدال بلا نهاية، ويتأرجح سلبا
وايجابا".
وحينما سئل أي من الاحزاب الهندية أكثر إدعاء لميراث غاندي الأيديولوجي؛ لم يترك جوابه مجالا للشك: "لا يملك أي من الاحزاب السياسية أي ادعاء سليم بوصفها ورثة غاندي أخلاقيا"، ويمضي معددا الاسباب: الفساد المذهل، وتوارث السلالات للعمل السياسي، والفرقة الدينية. يرى راماتشاندرا أن الحماة الوحيدين لأرث غاندي هم خارج الحكومة؛ من أمثال الجماعات البيئية والمنظمات التي تحاول حماية حياة القرى التراثية ودعم التجانس الديني.
يرتدي الأدلاء الى نصب الزعيم المنسي ملابس خشنة منسوجة محليا، وهو مظهر متميز لغاندي؛ الذي دعم الملابس المنسوجة محليا (المعروفة بإسم- كادي) كبديل للواردات البريطانية. ويشعر الداخلون الى النصب فورا بالسكينة، وسط الشوارع الفوضوية المحيطة به؛ وكأنه جزيرة هادئة تحيطها منطقة حضرية تضم نحو عشرين مليون انسان. وهو مكان يثير التأمل والسلام؛ وكأن هالة غاندي ذاته ترفرف
فوقه.
ولعل أحد اسباب السكينة يعود الى أن النصب لم يعد يستقطب من الزائرين قدر ما كان سابقا؛ بعدما تناقصت أهمية الزعيم ومثابرته لدى الهندي الاعتيادي.. لكن ما زال هناك زائرون.. يقول "مانوج جوداساما"؛ البائع المتجول الذي كان يزور النصب والضريح: "لعله لم يعد من الاسماء التي تتردد خلال محادثاتنا اليومية؛ لكننا نفكر فيه
بالتأكيد".
الاندبندنت البريطانية