محمد كريم الخاقاني
تطورت الدبلوماسية مع تطور الأزمنة فأصبحت تعبيراً عن حاجات المجتمع، فلم تعد تقتصر على الجانب الرسمي وتمثيل الدولة في الخارج وتحقيق مصالحها، بل تعددت انواعها واشكالها،وقد لا نبالغ بالقول بأن الدعوة لتغليب الحوار والدبلوماسية على ما سواها، هي دعوة لاقت ترحيباً كبيراً بعد ما عانت منه البشرية من ويلات الحروب.
لاسيما في الحربين العالميتين الأولى والثانية في بدايات القرن العشرين وقبلهما الكثير من الحروب، التي جرت بين مختلف الدول وعلى اسس دينية في بداياتها واستمرت بإشعالها لعقود طويلة، كل تلك الأوضاع اثرت بشكل او بآخر في تطور الدبلوماسية وآلياتها وبما ينسجم مع تطور المجتمعات، فمرت الدبلوماسية بمراحل متعددة، وصولاً الى ما نحن عليه الآن، فكل مرحلة زمنية تظهر معها طريقة وآلية تتناسب والتعامل معها، فكانت الدبلوماسية تنتقل من شكلها السري الى العلني، ومن دورها الفردي الى الجماعي وبما يعود بالنفع والفائدة على الجميع، وكذا الحال بصيغ ومسميات مختلفة وحسب الوضع السائد فيها، فهناك الدبلوماسية الاقتصادية والبرلمانية ومكافحة الإرهاب وغيرها من الانواع، التي اعتمدتها الدول لبناء علاقات فاعلة وناجعة ولترسيخ التعاون في ما بينها والتغلب على ما يعترضها من مشكلات لتحقيق اهدافها، ومن هذه الأشكال التي برزت بقوة هي الدبلوماسية الدينية، فمع بدايات خلق الإنسان نجد بأن الحاجة الى الدبلوماسية الدينية كانت متزامنة بالنظر لحاجات الإنسان ومجتمعه بعد تطوره الى ضبط لسلوكيات وتصرفات تلك التجمعات البشرية وبما يسهم في الحفاظ على المتبنيات الضرورية لديمومة الحياة البشرية، وفقاً للقيم الأخلاقية التي يؤمنون بها، ولكن مع تطور الزمن وغلبة التغيرات على المستويات كافة، سواء من الناحية التأريخية والجغرافية ادت في النهاية الى تغليب القوة المادية التي اضحت تمثل الهدف الأول الذي تسعى اليه كل الدول، فكانت الحروب الدموية منذ الزمن الغابر ولغاية اللحظة الحالية السمة المميزة لتحقيق تلك الأهداف، من دون الرجوع لصوت العقل وغلبة التوجه الأخلاقي المتمثل بانتهاج طريق السلام، والذي تمثله الدبلوماسية الدينية عبر تأكيد الدور المميز للزعماء الدينيين في حل وتسوية الخلافات والنزاعات في مختلف ارجاء المعمورة، ومن هنا تأتي الدعوة لاعتماد ذلك النوع من الدبلوماسية لحجم تأثيراتها وقوتها من الناحية المعنوية، لتضفي نوعاً من الإحترام لشريحة لطالما مثلت دور السلام والمحبة ومن اجل زرع بذور الحب والوئام في المحتمعات البشرية، وعليه لا بد من إعتماد الدبلوماسية الدينية على الرغم من الاختلاف في الديانات، فهي في الوقت ذاته تدعو الى تبني قيم التسامح ونبذ العنف والعدالة والمساواة بين البشر من دون تمييز، على الرغم من ان البعض يذكي صور الاختلاف في وجهات النظر بين المجتمعات البشرية لإختلافات في المعتقدات، التي يؤمن بها البعض دون الآخر، او في تبني ميول في الدين لا تتناسب مع ما يؤمن به البعض الآخر وهو ما يؤدي الى التصادم والتنافر عند بعض المشككين، الذين استغلوا تلك النقطة لتنفيذ مشاريعهم القديمة في تفتيت العالم، وفقاً لمطامعهم.
ويبدو اليوم أن العالم بحاجة اكثر من اي وقت مضى الى تعزيز تلك الخطط والستراتيجيات، التي تهدف الى تفعيلها للقضاء على الظواهر التي تعاني مجتمعاتها وبالخصوص من ظاهرة الإرهاب، الذي ضرب الجميع ومن دون استثناء، ومن اجل عدم استغلال الدين في تنفيذ الأجندات وتفتيت الدول، والعمل على خلق الإنقسامات وتشجيع الفتن داخلها، نرى بأن الوعي الديني والضبط المجتمعي يجب أن يصب في خدمة اهداف الدول وليس بشكل سلبي على مقوماتها واساسيات وجودها، وبالتالي ستعزز الدبلوماسية الدينية من ذلك إذا ما اعتمدت قيم التماسك المجتمعي والدعوة اليه وتعزيز قيم التسامح بين افراد المجتمع، من دون التمييز بين الجميع على اساس القومية والتنوع المذهبي وغيرها من الأمور التي تساعد على تبني مواقف ضيقة، استناداً على الاختلاف في الرؤى والتوجهات في الدين، وهذا ما يتطلب جهودا فاعلة ومضنية للتغلب على معوقات العمل الجماعي والتماسك المجتمعي داخل الدول، ولا يقتصر ذلك العمل على دولة ما، بل يشمل المجتمع الدولي برمته طالما انه في مرمى المخططات الخبيثة، التي تستهدف اسس السلام والاستقرار والتعايش بين مكوناته، وهو ما يعني الدعوة الى تأسيس وضع حديد ووضع ستراتيجيات دولية لمواجهة التطرف الفكري، الذي يعمل على ضرب المجتمعات من الداخل وزيادة الانقسامات، ويتطلب ذلك الشعور والقبول بالآخر المختلف عنهم، وهذا ما تسعى الدبلوماسية الدينية المتمثلة برموز كل ديانة في تحقيقه والعمل لجدية من اجل هدف السلام ونشره في العالم، ويمكن أن نجد مصاديق ذلك العمل في الدعوة لتأسيس مشروع الحوار الإنساني عبر الدعوة للقاء، كل من بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر من اجل التسامح ونبذ العنف، وهي من دون شك خطوة فاعلة من خطوات العمل الجماعي لتأسيس خطوة السبق في توحيد الجهود في العالمين المسيحي والإسلامي من اجل الارتقاء بالعمل الإنساني، بعيداً عن كل ما يعزز ثقافة التطرف ونبذ الآخر وعدم قبوله داخل المجتمعات البشرية، وتجلت تلك الخطوة ايضاً في آذار 2021 بزيارة البابا الى العراق في زيارة من اجل الإنسانية جميعا ولقائه الإمام علي السيستاني، في خطوة وصفت بأنها تمثل الدور الفاعل، لما يجب أن يقوم به الزعماء الروحيون في تهدئة الأوضاع وتسوية النزاعات في مختلف انحاء العالم.
ونرى بأن الدعوة لتفعيل الدبلوماسية الدينية هي بداية لمرحلة جديدة تهدف الى استثمار الرمزية التي يحظى بها رموزها الدينية وفي مختلف الديانات، إنما تمثل منطلقاً لتطبيق ما تنص عليه الشرائع السماوية والدعوة الى إنتهاج افكار العدالة والمساواة والقبول بالاختلاف العقائدي، وهي تمثل صورة واقعية أملتها عليها الظروف التي يمر بها العالم.