النص الشفاهي والذاكرة العراقية

فلكلور 2021/07/01
...

 علي أبو عراق
من الشائع لدى الغالبية العظمى من الناس ان النص الشفاهي أو بالأحرى الثقافة الشعبية بكل اشكالها وأجناسها، لم تتمكن من الحصول على التأييد والتسليم برقيها او تنتزع الاعتراف برفعتها، على الرغم من كونها الأكثر قربا الى قلوب الناس وملامسة مشاعرهم، واطلاق خيالاتهم بسبب بساطتها وتلقائيتها من ناحية الفنون والصناعات باشكالها المختلفة وشفاهيتها وبساطتها وصدقها ايضا من جهة الادب شعرا ونثرا، ويخيل للكثيرين أنها ثقافة العامة والطبقات الكادحة على وجه التحديد، وليست ثقافة كل الشعب أو عمومه، لاسيما النخبة والطبقات {الرفيعة}.
فالكثير حتى من الدارسين يصنفونها (شعرا وحكايا وغناء ورقصا وموسيقى وتشكيلا وصناعات يدوية) ضمن الفطري او البدائي وادبها (شعرا ونثرا) يصنف ضمن الثقافة الشفوية او الشفاهية. وهذا الشفاهي او الشفاهية هي من النصوص غير المعتبرة او غير المعبرة او البسيطة والبدائية حسب ما يرون. ولعل العلاقة واضحة ومؤكدة بين الشفاهي والمدون، من حيث التنظير ولكن ليس هناك اهتمام جدي يؤكد ويشير الى أن النصوص الشفاهية من النصوص التي ترقى الى درجة الأدب الرفيع أو المؤثر في تشكيل جماليات الوعي عند اغلب الناس، لأن النص الشفاهي اكثر نفاذا للوجدان وأكثر رسوخا في الذاكرة، وان قوته وتأثيره لا يتوقفان على استخدام الكتابة والتدوين. إذ ان قوة الابداع تنحي اللغة ومعاييرها او شروطها جانبا وتزيحها باقتدار تام، وتشتغل بفعل قدرتها وقوتها الداخلية الخاصة وابداعها الذي ينتزع مكانته انتزاعا. ولعل في الشعر الجاهلي والالياذة والاوديسة والشاهنامة والكثير من ملاحم الشعوب المختلفة وهي من الروائع الادبية الشفاهية العالمية، ما يؤكد ما نرمي اليه بقوة ويؤكد جدارة النص الشفاهي. واذا كانت الشفاهية هي نص الإنسان الاول في التعبير عن ذاته واحساسه بالوجود بشكل شامل وبالقيم الجمالية والاخلاقية بشكل خاص، فإن الكثيرين يرون تعسفا بما يشير ضمنا الى انها نتاج فطري ساذج يفتقد الرفعة والبراعة والتنظيم، وهنا نود أن نقف ضد هذه النظرة ونطرح البديل لا من اجل احقاق الحق حسب، بل هي دعوة للخروج من الاطر الجاهزة والمحددات المسبقة التي لا تخلو من استبداد وقسر. وندعو الى الغور في جماليات هذا النص الذي كان النص البدئي ولم يكف عبر كل العصور في التعبير عن اهميته وربما اولويته. ونحن ابناء القرن العشرين والذي يليه. صحيح ان ذاكرتنا اثثت بالقصص والروايات والشعر والاغاني الحديثة شرقية وغربية. ولكننا لا نستطيع ان ندعي قطعا بأننا مقطوعو الصلة بتراثنا الشفاهي، من أغانٍ وحكايا وامثال واشعار. بل ارى اننا أكثر قربا لها على الرغم من جعجعة العصر، وان الموقد او ما يسمى الكانون وحكايا الجدات واشعار الدارمي والاغاني الموغلة في الوجد والصبابة والعفوية والعشق والبطولات والتضحية وقصص الجن والاشباح، لم تزل تحتل الجزء الاكبرمن وجداننا والمساحة الاوسع في ذاكرتنا ولأننا وعلى ما اعتقد الجيل الذي هو عتبة فاصلة بين القديم والجديد والشفاهي والمدون والفطري والمصنع والبسيط والمعقد، علينا أن نشتغل ضمن مشروع ادامة هذه الروح العراقية الثرة المكتنزة وعدم السماح لها بالضياع في تلافيف الزمن وصخب التكنولوجيا. وأرى أن أولى هذه الخطوات يبدأ بتدوين النصوص الشفاهية وانارتها وتفكيكها ونقدها وابراز جماليتها وفتنتها او على الاقل سياقاتها الاجتماعية والتاريخية. وارى ان الانثروبولوجيين الأجانب كانت هذه بدايتهم. ولكي لا اطيل عليكم سأبدأ بتدوين ما اعرفه اولا تحت عنوان (شفاهيات) لانه لم يزل يحمل شحنات هائلة من الوجدان والعاطفة والجمال والقيم النبيلة وثانيا بهدف حفظه من النسيان والموت. وسأنشر ما اعرفه من أشعار وقصص وحكايا، لأن أولادنا واحفادنا المنشغلين لحد الهوس بالنت والهواتف النقالة ومنجزات الثورة المعلوماتية، لن يخصصوا الكثير من وقتهم لهذا الجانب.