جواد غلوم
يطيبُ لي بين فترة وأخرى أن أتجوّل وسط مدينة بغداد وأتطلع الى ما بقي من معالمها لعلّ نسائم عليلة من عبق ماضيها تمرّ بي وتنعش دواخلي وتشرح صدري؛ غير اني أفاجأ بين كل جولة وأخرى وأرى في شوارعها ومحلاّتها وأسواقها معالم قد اختفت وأخرى قيد الهدم والزوال. ما ولّدَ فيّ شعوراً بأن ميراثها الحضاري والمعماري يكاد يختفي تماما في غضون السنوات المقبلة، ان لم تتخذ الجهات المسؤولة المعنية الإجراءات العاجلة حفاظا على موروثنا المعماري والابنية التراثية العريقة.
وبسبب التمدّد العمراني غير المدروس والجهل بأهمية التراث لهذا الجيل الحاضر بيننا وللأجيال المقبلة والجشع الذي يتغلغل في نفوس ورَثة مالكي العقارات القديمة وهدمها وبيعها لتجّار عقارات، هدفهم اكتناز المال وممارسة مضارباتهم العقارية، غير مبالين بأهمية وقيمة المكان وذاكرته؛ اذ يقوم هؤلاء بإغراء الورثة او مالكي العقارات بالمال، حيث أوصلوا قيمة المتر المربع الى عشرة آلاف دولار اميركي للمتر المربع الواحد في مركز المدينة، وفي المناطق التجارية الثرية وسط العاصمة، ناهيك عن الدور السلبي لأمانة بغداد وإهمالها الكثير من أماكن ومعالم بغداد الأثرية مثل الخانات والأسواق القديمة والحمّامات والبيوت البغدادية ذات الطراز الفريد، والتي اخذت تختفي تدريجيا ولا أحد يمدّ يديه لانتشالها من الاهمال والواقع المزري الذي تعاني منه.
أما كان الأجدر ان تقوم أمانة العاصمة باستملاك تلك الدور والأماكن الأثرية والعمل على صيانتها وتأهيلها من اجل حفظ معالم ذاكرتنا البغدادية؟ أما يمكن ان يتم جعلها أماكن سياحية ومكتبات ومتاحف صغيرة ومزارات ثقافية بالتنسيق مع الجهات السياحية ووزارة الثقافة وغيرها من الدوائر المعنيّة؟!.
مما آلمنا اكثر هو ظهور تقليعة جديدة يمارسها اصحاب العمارات والمباني عبارة عن تغليف الابنية بصفائح معدنية جديدة من الالمنيوم ،او اية مادة اخرى وإخفاء اية معالم جميلة متبقية بقصد التشويه مما يسمونه عاملو الديكور ب " الكوموند " من دون ان تقوم الامانة بأيّ دور لمنع مثل هذه الممارسات التخريبية شبه المقصودة، التي تهدف الى مسخ وطمس ما تبقّى من آثارنا العتيدة ومعالمنا الجميلة، ففي الوقت الذي نرى مثل هذا الاهمال من قبل امانة بغداد. نرى العكس لدى محافظة بغداد التي شمّرت عن سواعدها وعملت على تأهيل وإحياء بعض الاماكن التراثية، كالمركز الثقافي البغدادي في شارع المتنبي وصيانته بأبهى صورة، ولم تكتفِ بذلك، بل قامت قبل عدة سنوات بفتح وتوسعة ساحة القشلة ورصفها بالبلاط القديم وفرش الساحة بالزهور وإعادة تشغيل ساعة القشلة، مما يبعث على السرور والبهجة للزائرين، حيث عملت على إحيائها وبعثها من جديد، وصارت حقاً معلما حضاريا جديدا ومزاراً ثقافيا جميلا وملتقى رائعا، يمتع الانظار ويبعث البهجة في النفس، وهذا مالمسته خلال زياراتي لهذه الساحة.
ما الضير لو تمّ بذل المزيد من الاهتمام بإرث ماضي عاصمتنا الغالية العريقة، كي نعيد جزءاً ولو يسيراً من مجدها الغابر وإحياء معالمها الراسخة في اعماقنا ومخيّلتنا، وحبذا لو تترسخ بعض مسرّات بغداد المنسيّة على ارض الواقع من اجل نشر البهجة والسعد في نفوسنا، الباحثة عن الجمال المضاع في وجه بغداد الحزينة الموجوعة المدمّرة في اجزاء عدة من ضواحيها وأماكنها وشوارعها ومحلاّتها وأحيائها.
اجل بغداد تريد منّا الكثير من الرعاية والاهتمام، فلْنعطها ولو كان عطاؤنا يسيرا، فيا أيها المسؤولون لا تستحوا من إعطاء القليل لعاصمتنا فالحرمان أقلّ منه.