إخراج القوات الاميركية من سوريا.. القول اسهل من الفعل
بانوراما
2019/02/19
+A
-A
ليز سلاي ترجمة: أنيس الصفار
أطلق قرار الرئيس ترامب بسحب القوات الاميركية خارج سوريا سباقاً بين القوى الدولية والمحلية من اجل إيجاد كيفية لملء الفراغ الذي سيخلفه الاميركيون وراءهم. ومع تثاقل خطى الدبلوماسية اخذ يتجلى يوماً بعد يوم ان ما من ترتيب قد أعد كما يبدو لتهدئة المخاوف وارضاء الاجندات المتنافسة للاطراف المعنية، كما يبدو أن الاحتمال ضعيف في ظهور مثل هذا الترتيب قريباً.
ومن الملاحظ أن تركيا وروسيا والكرد السوريين من حلفاء أميركا، بالاضافة الى الحكومة السورية، جميعهم اطراف لها مصالح ستراتيجية لتحقيق أي اتفاقية تبحث لتقرير مستقبل منطقة شمال سوريا، ورغم كل هذا تجد أن معظم مطالب هذه الاطراف متعارضة مع بعضها تعارضاً دراماتيكياً. كما إن إعراض هؤلاء عن التحدث مع بعضهم يزيد مسألة التوصل الى حل تعقيداً على تعقيدها الذي تعيشه الآن.
فبالنسبة لتركيا، فانها تعتبر المقاتلين الكرد قوة إرهابية، لذلك فهي تريد اقامة منطقة آمنة تحت سيطرتها لإبعاد هؤلاء عن حدودها. أما الكرد، وهم حلفاء الولايات المتحدة منذ اندلاع الآزمة السورية في العام 2011، فإنهم يخشون تعرضهم للاضطهاد على يد الاتراك، لذلك تراهم يطالبون ببقاء تركيا خارج منطقة وجودهم. اما ادارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب فهي تحاول ارضاء الطرفين معاً، مستفيدة من وعودها المتضاربة بخصوص حماية حلفائها الكرد من ناحية، واعطاء الاتراك ركيزة قوية في المنطقة من ناحية اخرى.
والواقع أن الكرد، من جانبهم، يفضلون عودة المنطقة الى سيطرة الحكومة السورية، بدلا من اللجوء الى هذا الحل. ولكن أحد أقوى حلفاء الرئيس بشار الاسد هي إيران؛ الغريم الطبيعي لإدارة ترامب، إذ من المستبعد نهائيا أن توافق الادارة الأميركية على اية خطة تسمح للإيرانيين بالاحتفاظ بأي قدر من النفوذ على الأراضي السورية.
أميركا بذلت جهودها
هذه المواقف المتعارضة “لا تقبل المساومة” كما يقول “آرون شتاين” مدير برنامج الشرق الاوسط في معهد ابحاث السياسة الخارجية، الذي يمضي قائلاً: “إنها شؤون كبرى، وأن الولايات المتحدة بذلت فيها ما بذلت، ورغم هذا كله تبقى الطروحات المتداولة غير قابلة للمساومة”.
لم يعلن البنتاغون حتى الآن موعداً محدداً للانسحاب من سوريا، غير إن مسألة كيف ومتى يحدث ذلك الانسحاب تزداد أهمية وإلحاحاً مع استمرار “خلافة” داعش التي كانت شاسعة بالتقلص والانكماش. فقوات سوريا الديمقراطية، التي يتولى قيادتها الكرد بدعم جوي أميركي، تحاصر اليوم الجماعة المذكورة داخل قرية أخيرة هي كل ما تبقى للارهابيين وسط صحارى جنوب شرقي سوريا.
لكن التناقض حدث بعد اعلان الرئيس ترامب مطلع كانون الاول الماضي بأن القوات الاميركية سوف تنسحب على الفور، ثم عاد بعدها ليقول أن قوات بلاده باقية الى ان يتحرر آخر جيب من اراضي “داعش”، وهذا يمكن ان يكون خلال الاسبوع المقبل. فقد اوردت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية قبل بضعة أيام تقريراً قالت فيه ان الجيش الاميركي يدرس تحديد شهر نيسان كآخر موعد لمغادرة القوات الاراضي السورية.
يقول المسؤولون الاميركيون انهم ملتزمون بالتفاوض مع الاطراف المعنية لأجل التوصل الى اتفاقية استلام وتسليم، ولكنهم يبقون يشددون على ان القوات الاميركية سوف تنسحب بغض النظر عن اي شيء. هذا الموقف يثير اجواء توقعات باحتمال حدوث انسحاب من دون ابرام صفقة، الأمر الذي قد يدفع المنطقة الى دوامة الفوضى من جديد، وربما حتى اندلاع صراع آخر حين تسارع القوى المتنافسة لكسب اقصى ما تستطيع كسبه كل بادعاء استحقاق ما.
ومن الواضح أن تركيا تهدد بغزو المنطقة في حال لم تتم تلبية مطالبها، فيما تقوم الدولة السورية بنشر قواتها الى الجنوب من تلك المنطقة، كما إن “داعش” تعيد تنظيم صفوفها داخل المناطق التي سبق اخراجها منها. ولأجل هذا يقول المسؤولون العسكريون أن حدوث أي فراغ قوة، أو اندلاع صراع جديد، قد يساعد على عودة “داعش” الى مناطق أخرى أيضا.
تعريف المنطقة الآمنة
لتجنب هذه النتيجة تجرى مباحثات دبلوماسية مكثفة بين الولايات المتحدة وتركيا تركز اساساً على هدف انجاز ما وعد به ترامب الرئيس التركي رجب طيب اردوغان عبر مكالمته الهاتفية خلال شهر كانون الاول بأن منطقة شمال شرقي سوريا، التي تنتشر فيها القوات الاميركية، ستكون تحت سيطرة تركيا. وقد قام “جيمس جيفري”، وهو مبعوث الولايات المتحدة لدى التحالف الدولي ضد “داعش”، بزيارة تركيا، كما زار المسؤولون الاتراك واشنطن بالمقابل لإجراء محادثات بهذا الشأن. وقد ركزت هذه المحادثات على تلبية المطالب التركية بخصوص اقامة ما يسميه الجانبان “منطقة آمنة” تشمل الاراضي الشمالية السورية على طول الحدود مع تركيا، بيد ان المحادثات لم تكشف عن شيء سوى أن تعريف كلمة “آمن” بالنسبة للولايات المتحدة بعيد كل البعد عن تعريف تركيا
لها.
يقول “نهات علي أوزكان”، وهو محلل من مؤسسة تيباف في أنقرة: “تريد الولايات المتحدة منطقة آمنة تتوفر داخلها الحماية للكرد من الجيش التركي، أما بالنسبة لتركيا فإن الأمر هو النقيض تماماً. فكيف يمكن لدولتين ان تتعاونا حين تتضادد اهدافهما كل هذا التضاد؟”
خلال ذلك تستطلع واشنطن، كما يقول مسؤولون أميركيون، إمكانية احتفاظها بالسيطرة الكاملة من دون الحاجة الى قوات عسكرية على الارض السورية. بموجب هذا السيناريو يمكن ابقاء وحدات صغيرة من القوات البريطانية والفرنسية، التي تعمل أصلا الى جانب القوات الاميركية، في المنطقة مع قوات سوريا الديمقراطية، وربما يتم التعاون مع متعاقدين عسكريين اميركيين ومراقبين من الامم المتحدة كذلك، بينما تتولى الولايات المتحدة تأمين الغطاء الجوي لتلك المنطقة.
هذه النتيجة هي ما يتمناه الكرد اكثر من أي شيء آخر، حيث اوضحوا انهم مستعدون لتقبل عودة السلطة الى يد الدولة السورية بدلا من اية ترتيبات تمنح تركيا دوراً. ولكن ليس من الواضح إن كانت الحكومة السورية مستعدة لتقديم هذا القدر من التنازلات الذي ينشده الكرد لضمان الاحتفاظ بالاستقلال الذي حصلوا عليه مؤخراً نتيجة للدعم من القوات الاميركية.
الاستقلال الكردي
عندما حل شهر كانون الثاني الماضي طلب الكرد من روسيا أن تتوسط بينهم وبين الحكومة السورية، وكانت مطالبهم تتضمن السماح لهم بالاحتفاظ بالسيطرة على الحكومة والقوات المحلية، وقد زار وفد من المجلس الديمقراطي السوري، وهو تحالف يضم الكرد والعرب من اهالي المنطقة، دمشق لطرح تلك المطالب على الحكومة السورية مباشرة.
إلا أن الرد لم يأت، لا من السوريين ولا من الروس، كما يقول صالح مسلم وهو مسؤول كبير في حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يعد التنظيم السياسي الكردي الرئيس. يمضي صالح فيقول: “إنها مسألة معقدة، فكل طرف ينتظر رؤية الخطوات التي ستتخذها الاطراف الاخرى، ونحن ننتظر
الجميع.”
تفضل روسيا، باعتبارها اقوى حلفاء الرئيس بشار الاسد، أن تستعيد الدولة السورية السيطرة، كما تقترح اعادة العمل باتفاقية أدنة 1998 الموقعة بين تركيا وسوريا التي تلقي على دمشق مسؤولية إبعاد المتشددين الكرد عن الحدود التركية. كما تلزم الاتفاقية المذكورة سوريا أيضاً بمنع حزب العمال الكردستاني التركي (بي كي كي) وكل المرتبطين به من استخدام الاراضي السورية منطلقاً للهجمات ضد الأراضي التركية، إلى جانب أنها تفرض على مقاتلي الحزب الذين يتخذون من سوريا قاعدة لهم ان يعودوا الى مواقعهم السابقة حيث جبال قنديل الواقعة شمال العراق.
بعض هؤلاء المقاتلين يعملون حالياً مع القوات الاميركية ضمن وحدات حماية الشعب المنتمية الى حزب العمال الكردي التركي، وهو مكون أساسي ضمن قوات سوريا الديمقراطية. إلا ان تركيا تشعر بالقلق من عودة القوات السورية الى المناطق الحدودية معها بعد ثماني سنوات من الحرب، والتي كانت تركيا طرفا فيها، ما لم يتم إقرار أولاً تسوية حدودية للصراع السوري الداخلي. فالحرب، التي شهدت انتزاع القوات السورية السيطرة مجدداً على مناطق واسعة جدا من يد المعارضة، قد أججت العداء الى أقصى حد بين الدولتين المتجاورتين وحولت رئيسيهما إلى عدوين لدودين بسبب الدعم الذي قدّمته تركيا لحركات التمرد المختلفة الساعية للقضاء على نظام الرئيس الأسد.
المصلحة التركية
يعتقد برهان الدين دوران، رئيس مؤسسة سيتا الفكرية في أنقرة، أن لا فائدة ترجى من تلك المحادثات، إذ يرى دوران أن عقد صفقة مع الرئيس السوري بشار الأسد لا تأخذ في الحسبان التوصل الى حل شامل للحرب لن يسفر، من وجهة نظره، أكثر من تعزيز قوة الحكم السوري وتمكينه من دون وضع حل للمشكلة الاساسية، وبالتالي سوف يبقى مستقبل سوريا مضطرباً قلقاً فتكون بعدها الاسباب متاحة لعودة الصراعات، ومعها عودة “داعش” الى المنطقة.
تركيا ايضاً تعارض خيار الكرد المفضل بإقامة منطقة حظر للطيران في شمال سوريا، إذ تخشى أنقرة من أن يؤدي هذا الأمر الى تمهيد الطريق نحو نشوء منطقة حكم ذاتي كردية تأخذ بالتشكل تحت وصاية
أميركية.
يقول برهان الدين، ملمحاً الى المنطقة الكردية شبه المستقلة الواقعة شمال العراق والتي ظهرت الى الوجود نتيجة فرض الولايات المتحدة منطقة حظر للطيران هناك خلال تسعينيات القرن الماضي على نظام صدام: “إذا كان معنى ذلك قيام شمال عراق جديد على حدودنا فإن تركيا لن توافق عليها.” وبالمقابل، يبقى الحل المفضل لدى تركيا، بحسب ما يراه برهان الدين، هو انشاء منطقة عازلة على امتداد الحدود يسيطر عليها الجيش التركي وقوات المعارضة السورية التي تدعمها حكومة الرئيس اردوغان، ولكن هذا لا ينسجم مع قلق الولايات المتحدة على سلامة حلفائها الكرد ولا مع رغبة الروس في عودة السيطرة الى يد الدولة
السورية.