محطات الماضي في طريق صناعة أزمات الحاضر

قضايا عربية ودولية 2021/07/06
...

 جواد علي كسار
بعد انفلاتها من قبضة إيران نحو عام 1747م، تحوَّلت أفغانستان إلى نقطة تنافس وصراع بين الإمبراطوريتين الروسيَّة والبريطانيَّة، إلى حين الإعلان عن استقلالها عام 1919م، إذ بقيت تنعم بشيء من الاستقرار السياسي الداخلي، حتى لحظة الانقلاب العسكري الذي قاده عام 1978م حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني المدعوم من الاتحاد السوفياتي يومذاك، بقيادة بابراك كارمل، وانتهى إلى مقتل رئيس الوزراء داوود خان، لتبدأ فصول جديدة من تأريخ هذا البلد، توالت فيه وما تزال الصراعات الدمويَّة الداخليَّة، والتدخّلات العسكريَّة الخارجيَّة، وقتل الأبرياء وتخريب العمران وتدمير نظام الحياة والمعيشة، وتهجير الإنسان.
محطة التدخل السوفياتي
مع انقلاب حزب الشعب الديمقراطي بقيادة كارمل، استطاع  الاتحاد السوفياتي أن يحصل من حكومة الانقلاب، على موافقة رسميَّة للتدخّل العسكري المباشر، تحت ذريعة تقديم الدعم للحكومة الأفغانيَّة. لقد تحوَّل التدخّل العسكري للاتحاد السوفياتي إلى واقع حال، ثمَّ إلى ورطة دامت عشر سنوات كاملة، لم تنتهِ إلا بعد أن وضع لها حداً الرئيس الإصلاحي للاتحاد السوفياتي وآخرهم قبل تفككه، ميخائيل غورباتشوف، عندما أصدر قرار انسحاب قوّات بلده في شباط عام 1989م.
يضع التحليل السياسي أمامنا نظريتين بارزتين، في تفسير اندفاع الاتحاد السوفياتي لغزو أفغانستان عام 1979م؛ الأولى أنَّ موسكو أرادت أن تقتنص لحظة الفراغ الذي عمَّ جوارها بعد انهيار نظام الشاه، وسقوط ركيزة من أكبر ركائز أميركا في آسيا، وتستثمر التخلخل الإقليمي لتأمين وضعها أمنياً واقتصادياً، وتعديل ميزان نفوذها سياسياً بضمِّ أفغانستان إلى المعسكر الشرقي.
أما النظريَّة الثانيَّة فتعزو ذلك إلى أجهزة أميركا الأمنيَّة والسياسيَّة، إذ كانت واشنطن تعيش رغبة ثأرٍ عارمة من الاتحاد السوفياتي، لدوره الذي قام به في دعم فيتنام الشماليَّة ولاسيّما ثوار الفيتكونغ، إبّان تورّط أميركا في فيتنام والحرب الأميركيَّة - الفيتناميَّة؛ هذه الحرب التي دامت قرابة عشرين عاماً (1955 - 1975م) تكبَّدت خلالها أميركا نحو نصف مليون أميركي بين قتيل وجريح.
على خلفيَّة هذا الثأر وتحقيقاً له تكوَّن ائتلاف في الكونغرس الأميركي مطلع الثمانينات، أُطلق عليه “قوّات الضربة الأفغانيَّة” كان الهدف منه مزيداً من توريط الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، للثأر من الشيوعيين ومن الدور الذي كانت قد لعبته موسكو في دعم الفيتناميين، وإطالة أمد الحرب كلَّ هذه المدَّة. وكجزء من عمليَّة الثأر هذه، برز دور وكالة الاستخبارات المركزيَّة في التنسيق مع باكستان والسعوديَّة والإمارات ومصر، لإيجاد مظلّة شرعيَّة لظاهرة المقاومة الأفغانيَّة ودعم حركات الجهاد، ودفع الشباب صوب أفغانستان، بل التنسيق المباشر مع بعض هذه الحركات الجهاديَّة، وتمكينها بالمال والسلاح والخبرات وتغطية نشاطها وإسباغ الشرعيَّة عليها، إلى الحدِّ الذي استقبل فيها الرئيس ريغان قادة الجهاد في البيت الأبيض نفسه.
إجمالاً، لم تمنح حقبة التدخّل السوفياتي العسكري المباشر؛ لم تمنح أفغانستان استقراراً سياسياً، فعلى مدار عقد من الزمن توارد على رئاسة الدولة في أفغانستان خمسة رؤساء، هم نور محمد تركي (1978 - 1979م) وحفيظ الله أمين (1979م) وبابرك كارمل (1979 - 1986م) ومحمد شمكاني (1986 - 1987م) ومحمد نجيب الله (1987 - 1992م) الذي كان آخر رئيس شيوعي يتولى السلطة في كابول، قبل تحوّلها إلى حكم المجاهدين، لتنتهي بذلك محطة من أبرز محطات التحوّل في أفغانستان، خلال العقود الأخيرة.
 
محطة التعصّب البشتوني
كبقيَّة بلدان المعمورة وككلِّ خلق الله، تتكوَّن أفغانستان من قوميات متنوِّعة ومتعدِّدة، أوصلها بعض الدارسين إلى (55) قوميَّة، بيدَ أنَّ البارز منها لم يتخطّ ستَّ قوميات، هي البشتون، والطاجيك والهزارة، والأوزبك، والتركمان، والايماق، وأكبرها بلا ريب هم البشتون الذين يؤلفون بحسب اختلاف التقديرات 40 _ 60 %.
نقرأ في التأريخ السياسي للبلد أنَّ أوَّل حكومة للبشتون تعود إلى عام 1747م، ثمَّ بقوا في الحكم على مدار (250) سنة متواصلة خلا انقطاعات قليلة، من دون أن يشركوا بقيَّة القوميات، وقد كان يمكن أن يمضي هذا التفرّد في السلطة طبيعياً أو شبه طبيعي، لولا “خبالات” بعض الحكّام، نخصّ منهم من المعاصرين الجنرال محمد داود خان.
ربَّما كان داود خان أبرز الأسماء التي ما تزال عالقة في التأريخ السياسي لأفغانستان، فهو مخضرم بين العهدين الملكي والجمهوري، لقد شغل في عهد الملكيَّة موقع رئاسة الوزراء لمدّة طويلة بدأت عام 1953م، وانتهت عام 1963م، وقد كان يتولى فضلاً عن رئاسة الوزراء وزارتي الدفاع والتخطيط.
 
الوطنيَّة البشتونيَّة
أكد خان في سياسته الداخليَّة أهميَّة ما أسماه “الوطنيَّة البشتونيَّة”، وهي نزعة تتوحَّد حدَّ التطابق مع ما شهده العالم العربي مع عبد الناصر وصدام حسين ومعمر القذافي وحافظ الأسد، في كلٍّ من مصر والعراق وليبيا وسوريا، بالتخفّي على بقيَّة المكوّنات والسعي لإلغائها رسمياً، لصالح هويَّة أثنيَّة أو دينيَّة أو مناطقيَّةأو حزبيَّة، تنفرد بكلِّ شيء، وتطمس البقيَّة بالقمع والإقصاء القسري الممنهج.
لقد سعى داود خان قسرياً عبر “الوطنيَّة البشتونيَّة”، إلى إلغاء بقيَّة المكوّنات الاجتماعيَّة في أفغانستان، وطمس هويَّة القوميات الأُخر وسحق ثقافتها، وفرض عليها بالقوّة والقمع الممنهج ثقافة البشتون وتقاليدهم، لتحويل أفغانستان إلى قلعة للبشتون، كما كان يردّد.
وفي السياسة الخارجيَّة مضى في الاتجاه لتوحيد بشتون باكستان مع أفغانستان، مما أثار في الداخل حفيظة بقيَّة القوميات ضدّه، وفي الخارج حذرَ باكستان وخشيتها واندفاعها للتخلص منه، وهذا ما تمَّ فعلاً عندما أقاله الملك محمد ظاهر شاه من الوزارة عام 1963م.
لم يلبث الجنرال داود خان إلا سنوات قليلة حتى عاد إلى رأس السلطة مجدّداً، عندما أطاح بابن عمه وزوج شقيقته الملك محمد ظاهر شاه في انقلاب عسكري بتأريخ 17 تموز 1973م، وألغى الملكيَّة وأعلن أفغانستان جمهوريَّة، ونصَّب نفسه رئيساً للجمهوريَّة، لينهال الشؤم على هذا البلد مع هذه الجمهوريَّة.
لم يَحِدْ داود خان عن منهجه في ترسيخ “الوطنيَّة البشتونيَّة” في الداخل، والسعي لتوحيد البشتون في الخارج ولاسيّما في باكستان، ما ألّب عليه الأوضاع في الداخل والخارج، ليؤول الأمر إلى قتله في انقلاب عسكري بتأريخ 28 نيسان 1978م، فاتحاً بغيابه الطريق أمام الحقبة الشيوعيَّة التي امتدَّت عشر سنوات، لتكون هذه المحطة المغالية في الإعلاء من شأن البشتون، والخفض من بقيَّة القوميات؛ هي محطة جديدة في الحلقات المتراكمة للأزمة الأفغانيَّة.
 
حكومة المجاهدين وحروبهم
باستثناء الاتحاد السوفياتي والصين والمعسكر الشرقي، اصطفّت أغلب القوى العالميَّة في أميركا وأوروبا وآسيا ودول بارزة في العالم العربيإلى جوار حركة المقاومة في أفغانستان، ضدَّ القوّات السوفياتيَّة الغازية، فتبلورت حركات الجهاد وتشعَّبت إلى هويّات، تبعاً للمال والسلاح والولاء الفكري والايديولوجي، وقد استغرق ذلك العقد الثمانيني من القرن المنصرم برمَّته، وعندما جاء قرار موسكو الانسحاب في نيسان عام 1989م، صارت حركات الجهاد الأفغاني على المحك، فماذا كانت النتيجة؟.
تبلورت عن انسحاب قوّات الاتحاد السوفياتي، جبهتان رئيستان داخل أفغانستان، تحرَّكت كلُّ واحدة منها بمحور يكاد يختلف جذرياً عن الآخر، وقف على صفِّ الجبهة الأولى أميركا وبريطانيا وباكستان والسعوديَّة والإمارات، احتوت تحت مظلتها داخل أفغانستان قوى بارزة من حركات المجاهدين، أمَّا الثانية فقد تبلورت عبر روسيا وإيران والهند، وكان محورها في الداخل ما اشتهر بتحالف الشمال، بقيادة أحمد شاه مسعود.
 
اتفاقيَّة بيشاور
كان من تجليات الصراع الإقليمي والدولي على الداخل الأفغاني، التنافس الشديد بين المجموعات السنيَّة السبع والشيعيَّة الثماني، ما أدَّى إلى مشروع تسوية بين أهمِّ هذه المجموعات الجهاديَّة، عبر اتفاقيَّة بيشاور التي عُقدت بتأريخ 24 نيسان 1992م، ووضعت الركائز الأساسيَّة لتقسيم السلطة على ما عُرف بحكومة المجاهدين.
من أبرز ما أقرته اتفاقيَّة بيشاور أنْيكون البشتوني صبغة الله مجدّدي (ت: 2019م) رئيساً للحكومة المؤقتة لمدّة شهرين، ثمَّ يتولى الرئاسة بعده الطاجيكي برهان الدين رباني (اغتيل عام: 2011م) لمدّة أربعة أشهر، يتعيَّن خلالها تكوين مجلس من أهل الحلِّ والعقد (اللوياجرغا) يتولى بدوره تشكيل حكومة مؤقتة، إلى حين إجراء الانتخابات العامَّة خلال (18) شهراً.
سقطت كابول نهائياً بيد المجاهدين بدخول قوَّات أحمد شاه مسعود إليها، وبدأ حكم المجاهدين فعلاً عام 1992م، كان الوحيد الذي أوفى بخريطة بيشاور لتوزيع السلطة، هو صبغة الله مجددي، وإلا فقد استمرَّ رباني في الرئاسة لمدَّة سنتين، تفاقم خلالها الوضع في ظلِّ الموقف العسكري المناهض الذي اتخذه قلب الدين حكمتيار، عندما راح يضرب العاصمة كابول بأنواع الأسلحة، بما في ذلك الصواريخ بدعم خلفي من باكستان والسعوديَّة، حتى قيل إنّه هدَّم خلال سنتين من الاستهداف العسكري نصف عمران العاصمة، وسقط جرَّاء أعماله قرابة ثلاثين ألف إنسان، ومع ذلك اصطدم بمقاومة حكومة المجاهدين، ما اضطرّه آخر المطاف للعودة إلى الاتفاق السياسي، عندما قبِل تسلم رئاسة الوزراء عام 1994م، قبل أنْتتآكل سلطة المجاهدين ببزوغ حركة طالبان، وانطلاق زحفها من قندهار عام 1994م أيضاً.
هكذا تضعنا هذه المحطة على واحد من أبرز وجوه الأزمة الأفغانيَّة، متمثلاً بتنافس حركات الجهاد وتحوّله إلى صراع دموي على السلطة، ربَّما فاقت نتائجه التدميريَّة؛ الدمار الذي لحِق البلد إبّان الغزو السوفياتي.
 
حركة طالبان
كان من بين أبرز النتائج التي تمخّضت عن حركة الجهاد الأفغاني، تبلور ثلاثة مظاهر مسلّحة تجاوزت الساحة الأفغانيَّة إلى المنطقة والعالم؛ هي ما اشتهر بـ”الأفغان العرب”، وتنظيم “القاعدة” وأخيراً “طالبان”.
انتهت ظاهرة الأفغان العرب التي تمحورت حول شخصيَّة الفلسطيني السلفي عبد الله عزام، باغتيال الأخير عام 1989م، مباشرة بعد إعلان الاتحاد السوفياتي انسحابه من أفغانستان، وتحوّل ملف الأفغان العرب إلى الأجهزة الأمنيَّة في بلادهم؛ في مصر والشام والسعوديَّة وشمال أفريقيا، إذ كان مصيرهم القتل والمحاكمات والسجون.
بشأن تنظيم القاعدة الذي بادر إلى تأسيسه أسامة بن لادن (ت: 2011م) بتشجيع من المخابرات السعوديَّة، ودعم فكري من أحد رموز الجهاديَّة المصريَّة أيمن الظواهري، فقد تلاشى تأثيره في أفغانستان إبّان التسعينيات لصالح أمراء الجهاد، خلا مدّة وجيزة اصطفّ فيها ابن لادن مع إمارة طالبان، قبل أنْتتّجه القاعدة إلى العالم العربي؛ في السودان والخليج ومصر وشمال أفريقيا، وفي العراق ما بعد التغيير.
إذا أخذنا بنظر الاعتبار الصراع الدموي الحادّ على السلطة في أفغانستان بين المجاهدين، ولاسيّما بين الحزب الإسلامي بقيادة قلب الدين حكمتيار (البشتون)، وحزب الجمعيَّة الإسلاميَّة بزعامة برهان الدين رباني (الطاجيك)، وتحالف الشمال بقيادة أحمد شاه مسعود (الاوزبك)، فقد كان من الطبيعي أنْيمهِّد ذلك لظهور قوَّة حركيَّة جديدة في أفغانستان. وهذا ما حصل، عندما انطلقت صيف 1994م من قندهار، مجموعة مسلحة تحت اسم “طالبان” استطاعت أنْتسيطر بيُسر خلال مدَّة قصيرة على نحو 90 % من أفغانستان، قبل أنْتدخل العاصمة كابول عام 1996م، لتُعلن البلد إمارة إسلاميَّة، بقيادة الملا محمد عمر.
بقيَّة القصة معروفة، فقد عجز الجميع عن إزاحة إمارة طالبان، إلى أنْتمَّ ذلك بالغزو الأميركي عام 2002م، ليحلَّ بالحركة ورجالها ما حلَّ بها، وتعود الآن إلى واجهة الحوادث، وقد فرضت سلطتها على 80 % من أفغانستان حتى لحظة كتابة هذه السطور.
سؤال الجميع؛ هل طالبان الحاليَّة هي نفسها طالبان التأريخيَّة، التي عرفها العالم بالبدائيَّة والهمجيَّة إبّان حكمها قبل ربع قرن، أو أنها استحالت إلى وجود آخر؟ نترك الجواب إلى فرصة مستأنفة بإذن الله القدير.