علي كريم خضير
بعد أنْ ودَّع العراق الاحتلال العثماني في آخر معقل من معاقله غرب الانبار عام 1918م، علي يد الاحتلال الانكليزي في حكمٍ دام منذ العام 1639م، كانت حياة العراقيين فيه مليئةً بالبؤس والشقاء، وتدهور الأحوال الصحية والاقتصادية والثقافية. ومارس العثمانيون فيه أقسى حالات التعامل، وأشدَّها قسوةً، لاسيَّما في مناطق الفرات الأوسط التي أفشلت مخططاتهم في طمس الهوية العربية عبر انتهاج سياسة التتريك بجعل اللغة التركية هي اللغة الرسمية في دوائر الدولة، والمدارس.
إذ قاطعت هذه المناطق مدارس العثمانيين، واتبعت حلقات الكتاتيب والمدارس الدينية في النجف الأشرف وكربلاء والحلة، هذا فضلاً عن المدارس الدينية الاخرى في عموم العراق. ولم يكتفِ العثمانيون بذلك. بل أخذوا ينزعون إلى تفضيل جنسهم على بقية الأجناس في الإمبراطورية في حركةٍ أسموها بالطورانية، عملت عليها جمعية الاتحاد والترقي {تركيا الفتاة} التي انتزعت السلطة من السلطان عبدالحميد الثاني بدعوى إعلان الدستور عام 1908م، وإرساء الحريات. لكنها نقضت ماجاءت به، وكان منها أن خسرت موقعها في قلوب المسلمين جميعاً، وانفرط عقدها في حكم البلاد العربية تباعاً، لتكون بريطانيا هي صاحبة القدح المعلّى في العراق. وإذا كانت بعض القبائل الفراتية ولاسيما في النجف الأشرف قد قلبت ظهر المِجَن للاحتلال العثماني من قبل، فقد بقيت على هذه الوتيرة نفسها مع البريطانيين، ولم تهادن على حساب فرض شخصيتها الاعتبارية إزاء قوى الاحتلال.
فإذا كانت ثورة النجف عام 1918م تمثل تحدّياً كبيراً بقتل الحاكم السياسي لمدينة النجف الأشرف الكابتن {مارشال} في مقر الحكومة يوم
19/ 3/ 1918م، وما تلى تلك الحادثة من حصار شديد على المدينة ومناوشات وصدامات ضارية، برهنت على تمسك الثوار بقضيتهم الوطنية وحفاظهم على الأماكن المقدسة من أن تطأ أقدام الغزاة ترابها الطاهر.
فإنَّ ثورة العراق الكبرى عام 1920م لم تكن ببعيدةٍ عن هذا التأريخ النضالي لمناطق الفرات الأوسط، التي إنطلقت شرارتها الاولى من مدينة الرميثة في السماوة ومن قبيلة الظوالم حصراً، بعد أن اعتقلت قواتهم الشيخ شعلان أبو الجون وما رافقه من ردّة فعل القبيلة التي هاجمت مكان احتجازه وأطلقت سراحه بالقوة من الانكليز في30/ 6/ 1920م، وهو التاريخ الحقيقي لثورة العشرين في ال عراق التي انتهت - كما يشير معظم المؤرخين - في 20/ 10 /1920م على اثر الاتفاق المبرم بين قبائل بني حجيم والسلطات البريطانية.
وعلى الرغم من تنادي بعض الأصوات المثقفة العراقية بالوقوف بالضد من هذه الثورة بحجة عدم توازن القوى العسكرية في الميدان {موقف الشاعر الزهاوي أنموذجاً}، أو أنَّ العراقيين لم يعد بوسعهم في ذلك الوقت انْ يناطوا حكماً وطنياً في العراق لقلة الخبرة التي كانوا عليها {وهو موقف جسدته مواقف بعض رجال الدين أيضاً}. الأمر الذي تم بموجبه اختيار الملك فيصل ملكاً على العراق في 23/ 8/ 1920م.
الحق أن هذا التطورات السياسية في الحكم ما كانت لتحصل لولا وقوع الثورة وتضحيات أبنائها، وإرغام البريطانيين على الإنصياع للإرادة العراقية الصُلبة. لأن البريطانيين سرعان ما أظهروا نوازعهم في السيطرة على ثروات العراق، واستغلال طاقات أبنائه على الرغم ممّا قدموه من وعود في خطاب الجنرال {مود} بعد إسبوع من احتلال بغداد في 19/ 3/ 1917م، إذ يقول: إنَّ جيوشنا لم تدخل مدنكم وأراضيكم بمنزلة قاهرين أو أعداء، بل بمنزلة محررين.
ولسوف يُسعد أهالي بغداد حالةً ويتمتعون بالغنى المادي والمالي بفضل نظامات توافق قوانينهم المقدسة، وأطماحهم القومية والفكرية. إلَّا أنَّ الأسلوب الذي اتبعته السلطات البريطانية في إدارة دفة الحكم في العراق، كان يتنافى مع دعواتهم المزعومة.
إذ قامت القوات المحتلة بحجة الحرب من الاستيلاء على الأموال بأبخس الأثمان أو من دون مقابل، وأخذ الرجال عنوةً للخدمة في العمليات الحربية، كما أنَّ نمط الحكم استمر بشكله العسكري حتى شهر تشرين الثاني عام 1920.
وأن الأساليب المتبعة في إدارة البلد كانت مستقاة من التجربة الأنكليزية في بلاد الهند إدارياً وقانونياً.
الأمر الذي أثار حفيظة العراقيين الذين أوجسوا خيفة من نوايا البريطانيين. فعمدوا إلى توحيد الرؤى، لاسيّما بين الاتجاه الديني والاتجاه الشعبي في الخلاص من الإستعمار الذي لا يمت إلى الديانة الإسلامية، والقومية العربية بصلةٍ.
إذ حملت الدعوات الدينية في النجف الأشرف وكربلاء والحلة، وصيحات القبائل العربية الأصيلة في عموم العراق والفرات الأوسط منهم بخاصةٍ، كذلك الاجتماعات والخطب والقصائد الحماسية في بغداد ومن منبر جامع الحيدرخانه، كثيراً من الرسائل إلى المحتل في عدم جدوى تطبيق مشروعه الاستعماري في السيطرة المباشرة على العراق.
فكانت ثورة العشرين هي الحدث الحاسم في التعبير عن الإرادة الوطنية التي تجسد مقولة: إنَّ ما يؤخذُ بالقوة لا يسترد إلّا بالقوة. وهكذا عمل (السير برسي كوكس) في تشرين الأول من عام 1920م على تهدئة الوضع، ودعا الأمة إلى ترك الثورة لأن تسوية الأمر لا تستقيم إلّا باستتباب الأمن والنظام في البلاد.
وفعلاً أخذ يتصل بعلّية القوم ويدعوهم للاجتماع به لوضع أُسس الحكومة الوطنية، فتم له ذلك بعد لأيٍّ شديد في تأليف الحكومة الوطنية المؤقتة بتاريخ27/ 10 /1920م، تحت رئاسة السيد عبدالرحمن أفندي الكيلاني نقيب الأشراف في بغداد. وبذلك انتصرت إرادة الشعب على جبروت الغزاة، وإصرارهم على استعباد الشعوب بما أُتيح لهم من تفوق عسكري، ومكنة سياسية في العالم آنذاك.