د. علي المرهج
كتب سلامة موسى مفكر الحرية كتاب {أحلام الفلاسفة} وتحدث فيه عن أحلامهم في بناء {المدينة الفاضلة} بتعبير الفارابي، أو {الجمهورية المثلى} بتعبير افلاطون، أو توماس مور في كتابه {اليوتوبيا}، وقد انتقدهم الكثير من المفكرين المضادين لهم، على أنهم يعيشون في {أبراج عاجية} يحلمون كما الشعراء، يصنعون عوالم لهم من بنات أفكارهم، وكأن هذا حلم الفيلسوف هذا منفصل عن الواقع.
وقد كتبت من قبل عن نقد هذه الرؤية بوصفها رؤية تتحرك من النظرية إلى النظرية، وتعيش في عوالم من صناعة الفيلسوف، ولا تتحرك من الواقع إلى النظرية. أي أنها تُنتج حلم تغيير الواقع داخل العقل نفسه، من دون دراسة ممكنات تحقق الفكرة في الواقع نفسه، ولكنها في الوقت ذاته لم تأت هذه (الفكرة من فراغ)، فكلما ازداد استبداد الطغاة في حكمهم للمجتمع، نجد الفلاسفة والمفكرين يلجؤون لعوالم الخيال لانتاج نظريات حالمة لعلها تشارك في تغيير الواقع.
كم من نظرية علمية كانت مجرد خيال ويصفها البعض أضغاث أحلام، ولكنها بتطور العلم صارت ممكنة، ولم لا تكون فرضية "المدينة الفاضلة" ممكنة، ولو بعد حين، فكونه فرضا صعب التحقق، لا يعني أنه فرض مستحيل.
فلو نظرنا للشيوعية بنزعتها التأصيلية مادياً، سنجدها تصل لعوالم الحُلم في تحقق المجتمع الشيوعي الذي تسود فيه المساواة والعدالة والخير الأقصى، وهي ذات حُلم افلاطون المثالي، ولكنه حُلم يشتغل في فضاء الواقع وامكانية تحققه في (الجدل الصاعد)، أي الانتقال من الجزئي إلى الكلي.
تمكن {غاستون باشلار} حول الخيال العلمي من دمج الخيال الشعري بالخيال العلمي ويوتوبيا الفلاسفة، وحاول تأسيس ما يُمكن تسميته {علم الخيال}، فالأحلام هي من عالم {الخيال التصوري} بينما {أحلام اليقظة} فهي من عالم التصور المادي، وهو أكثر ميلاً للدفاع عن {أحلام اليقظة} التي تنتمي لعالم {الخيال المادي}.
وضع باشلار {الخيال} موضعه الصحيح، بوصفه الملكة التي نستطيع من خلالها الانتقال من العقل إلى الواقع، ليكون {الخيال} بمثابة النقلة بين ما هو حركي وما هو ساكن، وكلاهما له صلة بـ {الأحلام} الواقع هو الساكن، والحركي {أحلام اليقظة}.
الخيال يخدمنا في التمرد على ما هو سائد في العلم والشعر والفلسفة.
لا يدعوننا الفلاسفة للإيمان بالخرافة والصدق بحرفية الأساطير، ولا بقصائد الشعراء، ولكنهم يكشفون لنا عن الطاقة الكامنة في {أحلام الفلاسفة} {وخيال الشعراء} لاعادة النظر في العلاقة بين معطيات الفلسفة والعلم والأدب، لأن {الخيال} {صورة شعرية} يُنتجها العقل، وينسبها الآخرون للنفس التي لا تحديد علمي لها، بقدر ميلنا لتحديدها وفق تصورنا الوجداني.
{الخيال} أو {أحلام اليقظة} إنما هي نتاج بشري خلّاق، ولنا أن نُجيد التمعن في أعمال كبار العلماء والفنانين والشعراء والروائيين، فنجد أن الإبداع عندهم لصيق بالخيال، وهي ليست علاقة {علّية} فلسفية أو من قبيل {التلازم الضروري} بين العلة والمعلول، ولكنها من قبيل المشهور المعروف، وقد تساءل أغلب المبدعين كيف أبدعوا ما أبدعوه وصار نتاجهم {أيقونة}، لأجابوك بأنه من {وحي الصدفة}، ولا تجد عندهم تفسيرا عقلانيا لما أبدعوه.
مرة حضرت محاضرة للنحات العراقي الكبير محمد غني حكمت يتحدث فيه عن أعماله الفنية، التي لا يختلف عاقل على أهميتها، وأنصت له، وكلما أنعمت الانصات وجدته لا يعرف تفسيراً لما أنتجه وفق مبدأ {التلازم الضروري} بين الإبداع والمعرفة. وظننت أنه يُجيد ابتكار عمل فني ملفت، وكفى، ولا نطالبه بغيره، لأن {الخيال} عنده يفوق قدرته للحديث عن نتاجه الإبداعي.
كثيرًا ما يتداخل ما نحلم به وما نتعقله ونأمل بتحققه.