الممكن ونقده

آراء 2021/07/11
...

 عطية مسوح
   من بين التعريفات الكثيرة للسياسة أميل إلى التعريف القائل «السياسة هي فن الممكن»، فهو أكثر التعريفات قدرة على التعبير عن ذرائعيّة السياسة وحنكة محترفيها، هذه الحنكة التي قد يستخدمها بعض السياسيّين في مصلحة الوطن والمجتمع، وقد يستخدمها بعضهم استخداماً مراوغاً يجعلهم قادرين على إخفاء الكثير مما يكمن وراء المواقف والشعارات من مصالح وغايات قد لا تنسجم تماماً مع المعلَن, أي مع الشعارات ذاتها. 
ومقابل ذلك، أجدني أنفر من كلمة «لعبة» التي يستخدمها عدد من الباحثين والإعلاميين والمحلّلين السياسيين, حين يقولون: «اللعبة الديمقراطيّة» أو «اللعبة السياسيّة» أو «اللعبة البرلمانيّة».
هذا النفور سببه ما تنضح به كلمة «لعبة» من استهتار بتطلّعات الناس، وبالقيم التي يرغبون في أن تحملها السياسية وتعبّر عنها المواقف.
وقد يكون من يستخدمون كلمة «لعبة» حسني النيّة لا يقصدون إضفاء صفة التلاعب أو الخداع علي العمل السياسيّ، بل يقصدون أنّ للسياسة قوانينها وأصولها التي يجب أن يتقيّد بها السياسيّون، كما يتقيّد اللاعبون في كلّ لعبة لرياضة العقل والجسد بقوانين ألعابهم.
ولعلّنا نكون واقعيّين إذا قلنا إنّ ميدان السياسة، كميادين الحياة الاجتماعيّة الأخرى، يجول فيه المتلاعبون ويجول «اللاعبون» 
المستقيمون.
من يمعن النظر في التعريف القائل: «السياسة هي فن الممكن» يجده تعريفاً على درجة عالية من الدقّة ووضوح الدلالة، يظهر الوضوح والدقّة إذا تفحّصنا دلالة كلّ من كلمتي «فنّ» و «ممكن».
فكلمة «فنّ» توحي بأنّ السياسة هي موهبة ومران وتدرّب، ككلّ فنّ آخر.
إنّ الممارسة السياسيّة – ككلّ ممارسة فنّيّة – تقوم على موهبة تصقلها التجارب وتنمّيها الفرصُ المتاحة والبيئة السياسيّة التي يعمل السياسيّ فيها.
وكما أنّ الشاعر مثلاً، يتحلّى بعنصر فطريّ درجنا على تسميته بالموهبة، أي إنّه يولد حاملاً استعداداً فطريّاً ليكون شاعرا, كذلك الممثل والتشكيليّ والموسيقيّ.. والسياسيّ أيضاً.
لكنّ هذا الاستعداد لا يعني أنّه سيكون شاعراً أو فنّاناً بالضرورة, إذ إنّ الأمر يحتاج إلى ثقافة وعناية وممارسة دؤوبة.
ولعلّ المفكّر الذي يُعايش السياسيين يلمس الفرق بين سياسيّ وآخر، في الموهبة والخبرة والثقافة العامّة.
ونحن لا نتحدّث هنا عن سياسيّي تيار محدّد, فهذا الكلام ينطبق على السياسيّين جميعاً.
هذا عن دلالة كلمة «فنّ» ومضامينها، أمّا كلمة «الممكن» فهي تدلّ على وجود الكثير من الحلول المحتملة لكلّ مشكلة من المشكلات التي تتناولها السياسة, وتعني تحديداً أنّ السياسيّ البارع هو القادر على وضع اليد على الحلّ الممكن، أي الأقرب إلى تلبية الطموح الشعبيّ كما يراه السياسيّ – وفق الشروط والطاقات المتوفّرة واقعيّاً.
تتراوح الحلول المحتملة لكلّ مشكلة بين الحدّ الأعلى، الأمثل، وتجسّده كلمة «تطلّع» والحدّ الأدنى الذي قد يصل إلى درجة التسليم بالأمر الواقع والتكيّف مع المشكلة.
وبين هذين الحدّين يوجد حلّ من الحلول المحتملة، هو الواقعيّ القابل للتحقّق والذي يلبّي الحاجة قدر الإمكان وفق الشروط الواقعيّة وميزان القوى.
وتتجلّى البراعة السياسيّة في القدرة على وضع اليد على هذا الحلّ الممكن, والتركيز عليه وتوجيه الطاقات إليه. 
هكذا تكون السياسة فنّ الممكن. ولكن، هل يقتنع الناس بالممكن ويقبلون به؟
هل الممكن هو غايتهم ومنتهى طموحهم؟
هل يُنسيهم هذا الممكن الذي اختارته السياسة تطلّعاتهم إلى الحدّ الأعلى الذي هو غير ممكن آنيّاً؟
لو كان الأمر كذلك لماتت طموحات الإنسان وتكسّرت أجنحته وخمدت حركة المجتمع إلى الأمام.
من هنا تأتي ضرورة عدم الاستسلام لهذا «الممكن»، لأنّه ليس الأفضل، ولأنّ واقعيته لا تلغي عيوبه التي يجب أن تكون موضع نقد دائم.
في هذا النقد بالذات تكمن روح الثقافة، التي هي نقد الممكن الذي تصل إليه السياسة.
إنّ المدقّق في الثقافة يجد أنّ جوهرها هو «نقد الممكن»، وصون تطلّعات الناس إلى الأعلى, وإلى الأمام، وحمايتهم من الوقوع في منزلق الاستسلام للممكن واعتياده والقبول بالحلول المتوسّطة برغم
 واقعيّتها.
إذا كانت السياسة هي «فنّ الممكن» فالثقافة إذاً هي «نقد الممكن»، ولعلّ هذا هو جوهر الاختلاف الوظيفيّ بين السياسة والثقافة.
إنّ قيام الثقافة بمهمتها النقديّة هذه يُغضب بعض السياسيين الذين يجدون في النقد إضعافاً للسياسات التي يضعونها، فالسياسة ترغب في أن تحتشد القوى حول الحلول الممكنة، والثقافة ترغب في كشف عيوب هذه الحلول كي يظلّ الناس متعلّقين بالأفضل والأمثل.
وغاية الثقافة من ذلك تقوية انشداد الإنسان إلى الأعلى، والمحافظة على حلمه بالأفضل.
إنّ نقد الممكن لا يعني رفض الواقعيّة السياسية، ولا هو ممارسة سلبيّة عدائيّة، وإنّما هو فعلٌ تمييزيّ يشير إلى الجودة والرداءة، والصواب والخطأ, ومناحي القوّة والضعف.
وبالتالي، فإنّ السياسة الوطنيّة والتقدّميّة الواقعيّة لا تتوجّس من النقد الموجّه إليها, ولا تخشى أن توضع تعميماتها وتفصيلاتها على محكّ البحث الدائم، ولا ترفض مقارنة «ممكنها» الواقعيّ أو التكتيكيّ بالمطلوب الاستراتيجيّ وإن كان هذا المطلوب غير ممكن 
آنيّاً.
السياسة الوطنيّة هي التي ترى في الطابع التطلّعيّ للثقافة إكمالاً لها، وترسيخاً للقيم والتطلّعات
 الإنسانيّة.
هذان هما جناحا الواقعيّة والطموح، وإذا فُقِد أحدهما تصبح الواقعيّة تسليماً وانكفاء، ويصبح التطلّع خيالاً مجرّداً أقرب إلى الوهم.
 
 كاتب وباحث من سوريا