الطقوس والتداعيات الذهنيَّة الشعبيَّة في ملحمة جلجامش

فلكلور 2021/07/15
...

 جاسم عاصي  
تعد ملحمة جلجامش, نصاً شعبياً, من اعتبار تداوله في المناسبات والأعياد التي كانت تقام من خلالها الطقوس والشعيرات, حيث تسود أحداث ونصوص فصولها دكه المسرح والشوارع والساحات. وبهذا اكتسبت شعبيتها باقترابها من هموم الرعايا في أوروك أو سواها من الحواضر التي انتقل إليها النص, فهي بحق نص شعبي, لأنه وازن بين تناول حياة الملك والحاضرة وإشكالات رعايا أوروك وأصبح جزءاً من خزانة الكتب والوثائق آنذاك.
 
إنها تتناول صراعات الإنسان مع نفسه, ومع القوى القاهرة, وتحكي عن قصصهم ولوعتهم, وما يعاملونه جراء الحيف الواقع عليهم. وفي النص, ما كان يعانيه رعايا اوروك من الظلم الاجتماعي والسياسي, مصدره الملك (جلجامش).
وما استجابة الآلهة في خلق نظيره (أنكيدو) إلا تلبية لحاجة الرعايا ورغبتهم في الخلاص. فقد تمثلت مشاهدها عبر أدائها وتمثيلها, وإلقاء مقاطع من شعرها, مصحوباً بحركات وإيماءات, كانت أولى جذور المسرح في العراق القديم. ولعلَّ هذا السبب من بين الأسباب العامة والذاتية الكثيرة التي وفرت للملحمة صفتها ومكانتها الشعبية باقترابها من الرعايا.
إنَّ معالجة حيثيات الناس, لا سيما رعايا أوروك الذين استغاثوا إلى الآلهة لوضع حد لسياسة الملك جلجامش، خاصة ما كان يثير حفيظتهم بصدد الذهاب بأطفالهم إلى معسكرات التدريب, كذلك ما كان يقوم فيه الملك في مناسبات الزواج, حيث يدخل مخدع العروس قبل زوجها. هذه الهموم وغيرها شكلت مادة الملحمة, التي بنيت على أساسها متغيرات كثيرة. كما أنها بالإضافة إلى ما كان يؤدى منها في المناسبات, فقد كشفت عن محتوى المعبد من محظيات وغلمان يسهمون في طقس الزواج المقدس داخل المعبد ويؤدون وظائفهم داخله, وهو من الطقوس الشعبية. يضاف إلى هذا كون محتوى الطقسية التي حولت (أنكيدو) من مخلوق بري, إلى مؤنسن, أسهمت فيها طقوس منها المواقعة مع شمخت والحرث في جسدها بطقسية جنسية ذات صفة شعبية, على اعتبار أن الاتصال الجنسي هو من طقوس الأعراس الشعبية. ثم تناول تقدمات (شمخت) من الخبز وجعة الخمر, التي مادتها الغلة الزراعية. وهي تدخل ضمن الصناعات الشعبية, لذلك اكتسبت شعبيتها من تداول صناعتها, وتوظيفها في تحويل البرّي إلى إنسان يمارس كل طقوس الحياة في أوروك, وعلى مختلف الأصعدة.
ولعلَّ علاقة (ننسون) بـ (انكيدو) كان عبر طقس التبني ــ الأمومة ــ وهي توصيه بولدها في رحلته إلى غابة الأرز. وهي في مجملها طقوس احتفالية أسهمت في تصعيد عنصر المشاركة من قبل أنكيدو في فعل التغيير على صعيديه المادي والفكري, ونعني فيها تغيير بنية الملك الأخلاقية والفكرية عبر تغيير ممارساته, إلى حد الاقتراب من الرعية, أو شعب أوروك. ويمكن اعتبار تبني أنكيدو لحماية ممتلكات الرعاة والسهر على مواشيهم لهو دليلٌ على ممارسة طقس اجتماعي ــ شعبي يدخل في باب مشغولات الناس وتأسيس علاقاتهم, عبر العمل الجماعي والتضحية. وما قام فيه أنكيدو, هو من ضمن الفعل الاجتماعي الشعبي, الدال على شهامة الرجل. كذلك يدخل في هذا الباب طقس ما قامت فيه (سيدوري) صاحبة الحانة, حيث بدت أمام جلجامش امرأة ذات سلطة معرفية فقدمت له النصائح المتعلقة بالخلود والبحث. أي أنها شاركت على وفق منظورها المعرفي الشعبي الذي اكتسبته من وجودها في موقع مفترق الطرق, حيث تستقبل الراحلين والمسافرين, ما أكسبها رؤية واسعة للحياة, فكان إسداؤها للنصح لجلجامش دليل خبرتها الاجتماعية الشعبية؛ أي تقديم المعرفة المكتسبة في حضرة الملك, وهي من باب النصائح التي تعتمد على تجارب شعبية ذات بنية جماهيريَّة, مستنبطة من التجارب اليومية, حتى أصبحت في حقل الحكمة الشعبية, فهي القائلة:
{إلى أين ذاهب يا جلجامش/ إنَّ الحياة التي تبغيها سوف لا تجدها/عندما خلقت الآلهة البشر فرضت عليها/ الموت,/ واحتكروا الحياة في أيديهم/ وأنت يا جلجامش اجعل بطنك مملوءة/ وكن فرحاً ليلاً ونهاراً واعمل طرباً في كل يوم/ رقصاً ولعباً ليلاً ونهاراً ولتكن ملابسك نظيفة,/ ليكن  رأسك مغسولاً ولتستحم بالماء}.
فالإنسان القديم اكتسب خبرته من الحياة, ومن الصعوبات التي كان يعانيها, ما دفعه إلى خلق رموزه وفنه ورؤيته للحياة, من باب الدفاع عن الوجود, لذا نرى أنَّ رؤية كاتب الملحمة ومؤلفها, أراد تحقيق مفردات البنية التحتية للوعي عند الإنسان البسيط, عبر رعايا أوروك, وبذلك حقق انحيازه إليها مبدئياً, وهذا ما نراه متحققاً في فصول الملحمة, حتى تغيـّرت رؤية جلجامش لحقيقة وجوده ومكانته الاجتماعية أي بما يكسبه من تأييد شعبي, وقد تركز ذلك في إصراره على الإكثار من عشبه الخلود بواسطة زرعها ومن إشاعة استخدامها, كي تشمل كل شيـَبة أوروك. حيث تجسدت هذه الأفكار الشعبية في جملة طقوس دالة, لعلَّ الأحلام واحدة منها. فالأحلام التي راودت الملك, وهي في مجملها أضغاث أحلام, دافعها ومستنبتها السلوك اليومي الخاطئ. أو هي بدافع الشعور بالذنب, لذا فهي استجابة للا وعي.
كما أكدته ننسون وهي تجري تفسيراً لها. وهي في مجملها تفسيرات تحاثث الوعي الشعبي. وهي أي ـ الأحلام ـ تـُبوب على أساس اللا وعي في عقل الإنسان, أو الخزين غير الواجد مجاله في الواقع, فتكون الأحلام خير ما تبشر عنه, وتثير عليه التساؤلات. ولعلَّ التفسيرات التي قدمتها الأم (ننسون), تندرج في مجال التفسير الشعبي أيضاً, في البحث عن القرين المادي والشخصي كدلالة على المعنى المرتقب, والمراد فيه تغيير بنية الملك, الذي يتوجب أنْ تكون مطابقة لرؤية الواقع حيث احتوت على إشارات تحذيرية للملك من مغبة التمادي في غيـّه.
يبقى الدليل الأخير على اعتبار الملحمة نصاً شعبياً, هو قدسيَّة الرقم سبعة, فهو يتطابق مع المفهوم المثيولوجي في الأديان والأساطير, في كونه ذا دلالة كونية في خلق الكون. والذي انسحب إلى مجمل الطقوس الشعبية, فاكتسب قدسيته من دلالته في كل حيز مكاني وزماني. ثم طقس حزن جلجامش على موت أنكيدو, فقد كان عبر قص شعر الرأس, واختيار لازمة لمندوبة خاصة, يرددها بالقرب من جثمانه, ولسبعة أيام.
إنَّ كل الدلالات تضع الملحمة في مصاف النصوص ذات الصلة المباشرة بمجموع الناس, في كل زمان ومكان, وهي جزء من ثافتهم الشعبية. وأعتقد أنها وغيرها أيضاً أسهمت في ظاهرة تداولها عبر كل العصور والأزمنة لأنها اكتسبت صلتها بالقاع الحياتي, من مدلولها الشعبي الخالص.