قراءة في قصيدة (أمطار) للشاعر عبد الرزّاق الربيعي

ثقافة 2021/07/15
...

 أ.د.سعد التميمي
 
 في قصيدة (أمطار) للشاعر عبد الرزاق الربيعي تهيمن تقنية التكرار بشكل ملفت للنظر، فلفظة (مطر) تتكرر أكـثر من (89 مرة) لتشكل مـا يقـارب نصف كـلـمـات القصيدة، من دون أن يؤدي ذلك إلـى خـلـل فـي البناء أو رتابة في الايقـاع، اذ فعّل الشاعر السياق ليلبس لفظة (مطر) حللا دلالية متنوعة، تتحرك بين الثابت المتمثل بالدال والمتحول المتمثل بالمدلول الذي يصبح اشبه بألبوم صور متنوعة لواقع متشعب، فتارة ترسم الفرح وتارة الألم والحزن وأخرى الحيرة والضياع، وهذا ما يكشفه العنوان الذي يمثل عتبة الدخول الى فضاء القصيدة والوقوف عند دلالاتها، فصيغة الجمع والتنكير (أمطار) تفيد التنوع والاخـتـلاف والاطلاق في تشكلاتها داخل القصيدة ذات المقاطع العشرة، إذ يقول:
 
 مطرٌ دق على بابِ مطرْ
 مطرٌ يلحس آذان مطر
مطرٌ ينهش في لحم مطر
 مطرٌ غطّى مطر
 مطر ألقى ذراعيه على كتف مطر
مطر يجمع أشلاء مطر
مطر دغدغ أطراف مطر
مطر دمّى مطر   
 
فلفظة (مطر) تتكرر أفقياً وعموديا في جميع سطور القـصـيـدة مـن خـلال استعمالها في أول كل سطر وآخره لتـشكـل أشـبـه بالكمـاشـة التي تحصـر المعنى وتقيده، لكن التحول الدلالي الذي ينتجه السياق كان بفعل الانزياحات والمفـارقـات الـدلاليـة فإسناد الأفعال (دق، يلحس، ينهش، غطّى، ألقى، يجمع، دغدغ، دمّى) لـلـ (مطـر) من جهة واضافة مفردات (بابِ، آذان، لحم، كتف، أشلاء، أطراف) الى (مطر) خلق مفارقات دلالية أسهمت في أنسنة المطر ليعبر به  الشاعر عن صور ملتقطة من واقع يحتدم بالتحولات جمعها في لوحة مركبة تجسدت
بالقصيدة. 
إنّ العنوان سرعان ما يتشظى في القصيدة الى صيغة المفرد وتكتسب دلالة جديدة مع كل جملة، من خلال الاسناد تارة والاضافة تارة اخرى، وما ينتج عن هاتين العمليتين من خرق واضح للعلاقات الوضعية وانتاج لصور شعرية تعكسها المفارقات الدلالية التي تخلق الدهشة في المتلقي، ومما عزز هذه الدهشة توظيف الربيعي التفاصيل اليومية التي اعطت القصيدة دينامية عالية، فالقصيدة عكست صورا قد نصادفها في حياتنا اليومية فتثير فينا هزة شعورية، الا ان الربيعي شحنها بطاقة شعرية عالية ودلالية عميقة تعكس انفعالاته ويكشف سياق القصيدة دلالات هذه الصور، اذ ترسم كل صورة مشهداً مختلفا، فـعنـدمـا يسند الفـعل (ينهش) للفظة (مطر) ويضيف لفظة (لحم) الى الـ (مطر) فإن المفارقة تحيل الى صورة الانسـان الذي يسعى لافـتـراس أخـيـه، وعند اضـافـة (أشـلاء) الى الـ (مطر) فإنّ المفارقة تحيل الى  شعب تشتت اشلاؤه وينتظر من يلمها ويأتي تكرار لفظة (مطر) لتكون نقطة انطلاق المفارقة من جديد في كل جملة، إذ
يقول:    
          
مطر هز سريراً لمطر
مطر ذاب على خد مطر
مطر مات من الضحك على ذقن مطر
مطر شم مطر
مطر سال على الاسفلت من جرح مطر
 مطر امسك في شعر مطر
 مطر شق طريقاً لمطر
 مطر دمع في صحن مطر
 
لقد جاءت المفارقة في هذه القصيدة ومن خلال تكرار لفظة (مطر) في سياقات مختلفة لتكشف علاقة الانسان بالإنسان من جهة وبمحيطـه من جهة أخرى، فـتـارة يكون الانسـان مـسلوب الارادة واخـرى يكون أداة للخـراب وأخرى عـويـلاً ينوح على مـعـانـاته، وقد تمثل ذلك مـن خـلال لفظة (مطر) فـعنـدمـا يسند الشاعر الفعل (ذاب) للـ (المطر) ويضيف لفـظـة (خـد) الى (مطر) فـإن لفظة (مطر) تأخـذ صـور الدمع أو الـحـزن مرة والانسان والمعـاناة مرة أخـرى، وفي مفارقة أخـرى يصبح المطر دماً يسفكه المعـتـدون أو الانسـان أو الـشـعب الذي استبيح مصيره، وقد تجلت هذه الصور التـي قامت على المفارقة مشاعر واحاسيس مختلفة يتضح أكثر في المقطع الأخير، إذ يقول:
 
مطر يحلم أن يغدو مطر
مطر نام علی قبر مطر
مطر عری مطر
مطر ضيع عنوان مطر
مطر يعرض في السوق مطر
مطر عض مطر
هكذا
 ابصرت من زاوية 
في الباص
 الآف الصور.
 
 فالبـاص هـنـا يرمـز الى رحلة الـشـاعـر في الـحـيــاة (أبـصـرت من زاوية في الباص) فالشـاعـر أخـذ علـى عـاتـقـه مـراقـبـة الأحـداث وتحليلها، ولما أراد تحريرها شعرا كان لا بد عليـه مـن تحـرير هذه التفاصيل اليـوميـة التي سماها بـ (الصـور) من سـيـاقـهـا الـواقـعـي الـيـومي المبـاشـر والبـاسـهـا حللاً شعرية تستفز المتلقي، وقد نجح في ذلك من خـلال التوظيف المدروس لتكرار لفظة (مطر) اذ لم يستعملها بدلالتـهـا الوضـعيـة، واخـتـلاف دلالتها من جملة الى أخرى بحسب السياق الذي كان عـامـلاً فاعلاً في تحـويل التـفـاصـيـل اليـومـيـة إلى صـور شـعـريـة مـؤثرة، مـن خـلال الانزياح الذي كان حاضرا باستمرار، وعلى الرغم مـن الاستعمال الواسع للـتكرار إلا أن الربيعي استطاع أن يبعد شبح الرتابة عن القصيدة تحوير دلالة المطر بالانزياحات والمفارقات التي تجاوزت الـثـمـانـيـن مـفـارقة أسهمت جميعها في خلق الدهشة وتحقيق اللحظة الشعرية المتوهجة والمتجددة على طول
القصيدة.