تمثال العامل شاهد مدينة

ثقافة 2021/07/17
...

  حبيب السامر
 
للمدن قلوب كما الأجسام، وقلب مدينة البصرة أم البروم، لمكانتها التاريخية وكونها أيقونة حاضرة في الذاكرة، كل الذين مروا في المدينة وشمت في أرواحهم  بصمة الرغبة في العودة إليها ثانية، فهي ليست ساحة عابرة كما الساحات التي تندثر مع تغييراتها الجغرافية والعمرانية، إذ ظلّ هذا المعلم المهم ينمو مع مرور الزمن ويتسع كلما مرت عليه حقبة جديدة، فهي شاهدة على تحولات المدينة مذ كانت مقبرة ممتدّة، تحولت بعد عام 1933 الى حديقة عامة مسورّة بأشجار السدر واليوكالبتوس، ولم تصمد كثيراً بعد أن امتدت يد البناء لتقضم منها مساحة، وتأتي بعدها مبانٍ أخرى لينتهي بها المطاف الى مركز تجاري كبير بعد أن تزاحمت في شوارعها صالات السينما مثل سينما الكرنك والمقاهي المتعددة التي كانت ملاذاً ثقافيا واجتماعيا لأبناء المدينة، ومكاناً يلتقي فيه من يقصد البصرة، كما وتنتشر المطاعم والفنادق ومحال بيع وتسجيل الكاسيتات في أزقة العشار، تحولت الى مكان ضاج بالحركة التجارية. هذه نظرة سريعة لهذه الساحة التي تتوالد مع الزمن. 
استذكرت قول باولو كويلو (سنمضي أبعد مما نعتقد.. سنبحث عن المكان الذي تولد فيه نجمة الصبح.. وسنفاجأ لدى وصولنا، بأن الأمر كان أسهل مما تصورنا). فعلا هذه الساحة التي كتب عنها الشاعر المجدد بدر شاكر السياب قصيدته (أم البروم): رأيت قوافل الأحياء ترحل عن مغانيها/ تطاردها وراء الليل، أشباح الفوانيس/ سمعت نشيج باكيها، وصرخة طفلها، وثغاء صاد من مواشيها، وفي وهج الظهيرة صارخا يا حادي العيس على ألم مغنيها.
قبالة الساحة ينتصب تمثال العامل الذي أنجزه النحّات عبد الرضا بتور، ليشكل بذلك علامة فارقة تضاف إلى عوالم المدينة، بحركته وهو يحمل مطرقته الثقيلة، ولم يكن هذا العمل الفني وحده الذي أنجزه الفنان الهادئ والذي لم يأخذ نصيبًا من الشهرة بعد أن نفّذ العديد من النصب والتماثيل منها تمثال الطالب والطالبة في ساحة جامعة البصرة عام 1968 وتمثال العربي والكردي في ساحة سعد فضلا عن منحوتاته الخشبية البارعة.
تأملت التمثال كثيرًا، جلست تحت أفيائه وأنا أقلب أوراقي التي كتبت فيها نصا عن التمثال:
في الليلِ، لا يبرحُ مكانَه، وفي النهارِ يلقونَ التحية ويمضون. ينظرُ بعينينٍ ثابتتين للمارةِ، حين يمُّر أحد أفراد أسرتهِ، تنزلُ دمعته، تزيحُ غباراتِ زمنٍ طويل/ حينَ تركَهم في نهار. ظَّل في مكانهِ سنوات، تحت الشمس، تحتَ المطر، الريحُ تعصفُ، غيرُ آبهٍ، حينَ يمر ابنه، تتحرّك أصابعهُ، وزوجتهُ التي ما فارقت السوادَ، مذْ أنْ تحوّل.!
دائما نجده على دراجته الهوائية، يتنقل بين جمعية التشكيليين والساحة ومناطق أخرى، حين التقيته أهديته قصيدة (تمثال العامل) التي فرح بها كثيرًا، كون القصيدة تجسد معاناة النحّات في عمله ومدونة لحركة أسرة العامل المتخيلة بعد تحويله الى مصهر الحديد ليتحول الى تمثال وحركة ابنائه والأم التي ما فارقت السواد، كما رصدتِ القصيدة واقع المدينة في السواد.
هي تمر كل يومٍ، لتلقي التحيةَ، أو تكتفي بنظرةٍ أحياناً.. وسط الزحمةِ والضجيجِ، في ساحة (أم البروم). الابنُ الأكبرُ، يقفُ أمامَ أبيهِ طويلاً، يسردُ عليهِ: أنَّ الحالة تزدادُ قتامةً، لم يعدْ كما عهدتهُ يا أبي، بيتنا، فقدانك، وحتى ضحكاتنا لم تجد لها حيّزاً في البيتِ، لا يبرحُ مكانهُ، ينصتُ، في يديهِ مطرقةٌ سوداءُ، لحقب تمضي، والعاملُ في أمّ البرومِ واقف.. البدلةُ سوداءُ، السياراتُ سود.. كل الأشياءِ سود.. حتى ضجيج الساحةِ صارَ أسودَ.
هذه المدن التي توجعها قلوبها الآن بعد أن كانت رمزًا ساطعًا في قلوب أبنائها، لقد كان أبو رشاد فنانًا مجتهدًا وحريصًا على أن يلقى الاهتمام والرعاية ولكنه غادرنا بهدوء من دون ضجة، وظل تمثال العامل علامة فارقة لمدينة تنتظر الكثير كي تحافظ على مبدعيها!.