هل نجح الحكم الجمهوري في النهوض بالعراق؟

آراء 2021/07/17
...

  علي كريم خضير
 لم تكن الدعوة إلى النظام الجمهوري وليدة ثورة الرابع عشر من تموز في العراق عام 1958م، بل إنها تزامنت مع الدعوات التي نادت بتكوين الدولة العراقية الحديثة بعد الاحتلال البريطاني عام 1917م، إذ ان بذور هذه الفكرة كانت تدور في خلد الطبقة المثقفة منهم خاصة، فهذا الرصافي يشير إلى ذلك بقوله:
إن الحكومة وهي «جمهوريَّة»
                                كشفت عماية قلب كل مضلل
سارت إلى نجح العباد يسيرة
                                أبدت لهم حمق الزمان الأول
ولها مريدوها في الوسط السياسي، لاسيما انَّ النظام الملكي قد أدلى بدلوه في العراق ولم يسفر عن سياسة تُرضي الأطراف جميعها، بسبب التبعية المباشرة التي كان عليها للإنكليز في بادئ الأمر، ثم انه لم يكن بوسعهِ التخلص من هذه التبعية لحجة الغرب الواهية أنَّ دول الشرق لم تزلْ فتية وهي بحاجة إلى رعاية أممية من قبل الدول المتمدنة من أجل إرساء أنظمة الحكم الحديثة فيها، وما يتطلبه هذا الاشراف من نشر مبادئ الحرية والمساواة، والعدالة بين أبناء الشعوب، وظلت هذه الأفكار المزيفة هي التي يتعكز عليها الاستعمار في استعباد الشعوب المستضعفة، والسعي لنهب ثرواتهم من دون أن تستطيع الإفلات من تلك الهيمنة، وقد يكون العراق من اكثر الدول التي تعرضت إلى الغزو الأجنبي بسبب ما يتمتع به من ثروات طبيعية هائلة، ناهيك عن موقعه الجغرافي الرابط بين الغرب والشرق، ولكن ثقافة المقاومة التي جُبل عليها العراقيون كانت الدرع الواقي الذي تكسرت عليه نصال الأعداء، إذا ما علمنا بأنَّ هدف الاستعمار هو إجبار الضحايا على الخيانة، وأن تضج بالصراخ والخضوع على أنها بهيمة بشرية في عيون الجميع وفي عيونها بالذات، وان من يستسلم لذلك فقد دمغ وإلى الأبد بصفة كونه: أقل من إنسان، على حدّ وصف ««سارتر»، لذلك فإن الإنسان من وجهة نظره ينبغي أن يكون مشروعاً يعيش بذاته ولذاته، ينعم بالحرية، الحرية التي تكون ملتزمة وتقتضي الاختيار، وحدود حرية الإنسان موضوعية وذاتية في آن واحد، وإذا رجعنا إلى العهد الملكي في العراق نجد أن سياسة بغداد في العلاقات العربية كانت بعيدة عن التآلف، فبسبب تعلقه بالإنكليز، وبحلف بغداد ظل العراق معزولاً عن الركب العربي.
فضلاً عن أن «الحكم الجمهوري» قد سبقت إليه أنظمة عربية من نحو سوريا ولبنان ومصر والسودان وتونس، وما تبعه من تأميم قناة السويس في مصر عام 1956م، كما أن الاردن قد ألغت معاهدة عام 1948م مع الانكليز، وشكلت حكومة وطنية عبر انتخابات حرّة أقيمت فيها، في حين كان العراق يدار من رجالات تنتمي إلى كبار الاقطاعيين، وأصحاب رؤوس الأموال ممن يعطفون على الانكليز، أما المجالس النيابية فكانت تنتخب بالتزوير والتزكية من دون تصويت، ويتم اختيارهم وفقاً للولاء للحكومة، والحريات السياسية كانت تشكو من تضييق الخناق لكثرة ما كان يُعلن من الأحكام العرفية، ومن إغلاق للصحف التي تصدرها أحزاب المعارضة، كلّ ذلك أسهم إسهاماً فاعلاً في قيام ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958م، وفي سياق الاعتراف بشأن استقلالية هذه الثورة عن المؤثر الخارجي يبين لنا أحد ضباط المخابرات الأميركية في كتابهِ «الجاسوسية الأميركية»، إذ أفاد بأنَّ الثورة قد قامت من دون أن نعلم بحقيقة أمرها، لإن المخابرات الأميركية كانت مشغولة بأحداث الجزيرة الكورية وقتذاك، الأمر الذي يُعطي انطباعاً مؤكداً بحقيقة أهدافها الوطنية العالية، ورغبتها في بناء عراقٍ حضاري متقدم، وقد يكون الحديث عن مكتسبات الثورة غنياً جداً من جانب تحرير الفلاح العراقي من ربقة الاقطاع والعبودية، وتنشيط الحركة العمرانية في البلاد، والحرص على توافر الخدمات للمواطن المعدم في ذلك الوقت، وبإشراف مباشر من الزعيم عبدالكريم قاسم «رحمه الله» الذي كان يجوب أحياء بغداد في أوقات مختلفة للاطلاع على واقع أبنائها، ويسهم في إيجاد الحلول الفورية لطلباتهم الضرورية، إذ كان  قريباً من المواطن الفقير، ونصيراً له، وقد استحوذ على قلوبهم في فترةٍ قصيرة حتى هتفوا له بالعامية: «ماكو زعيم إلّا كريم»، وإذا كانت الثورية في الثورة لا تُبنى على الوسائل بقدر ما تركّز على الأهداف، فإنَّ ثورة الرابع عشر من تموز 1958م التي قلبت نظام الحكم الملكي إلى نظامٍ جمهوري لم يحدد زعماؤها هويتها الثورية، فسرعان ما تنازعوا داخلياً في آلية الحكم المتبعة، فإذا كان الزعيم عبدالكريم قاسم يهدف إلى جعل الثورة ثورة اجتماعية إصلاحية بالدرجة الأساس، على الرغم مما شهدته الفترة التي حكم فيها من ثورة قانونية كبيرة.
 نجد في الجانب الآخر عبدالسلام عارف الذي كان يريدها ثورة سياسية بحتة، بمعنى آخر، كانت رؤى الزعيم عبدالكريم قاسم أنْ يكون قائداً شعبوياً لا يؤمن بالمظاهر والسلوكيات الفوقية، وينطلق في حكمهِ من الخاص إلى العام، مع التأكيد المستمر على حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه المغتصبة من الكيان الصهيوني، في كل الخطب التي كان يلقيها في المناسبات المختلفة، غير أنَّ النوازع القومية التي كانت تتسيد الساحة العربية آنذاك، بفعل ظهور الرئيس جمال عبدالناصر في مصر، واصطفاف بعض الدول العربية خلفه، ومنهم عبدالسلام عارف الرجل الثاني في الثورة، أسهمت في الإطاحة بالزعيم عبدالكريم قاسم في انقلاب 8 شباط عام 1963م.
وبذلك طويت أهداف الثورة الاجتماعية التي كان يراهن عليها الزعيم في تغيير الواقع العراقي على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وظل الفاعل السياسي هو الميسم البارز على شخصية العراق في ظل تقلبات قادت البلاد إلى حروب وويلات مدمرة، لم تغادرنا آثارها حتّى اليوم.