رماد الشعر

ثقافة 2021/07/18
...

حميد المختار 
يحترق الشعر وتبقى جمرته متوارية تحت الرماد، ويغادر الشاعر بكلِّ أناقته مع الدخان بوصايا (ديلان توماس)، «كُنْ مخلصاً حتى الموت»...
لم يكن ثمة أمل بالحياة الخالدة، الخلود للشعر ولناره الموقدة، لا تناسخ أرواح سوى للفراشات حين تحلّق قرب الشعلة المتوهجة... عندما يصل الشاعر إلى الصفحة الأخيرة من أيامه ينهمر المطر شعاعاً أو ظلاماً أو شظايا من السماء لتؤجّج نار المحيط الذي سيتحول إلى بركان متفجّر، تسقط الشظايا وتتكسّر بضجيج ولمعان يضرب زجاج الروح الذي إنْ تهشّم فلا يُعاد له سبك ثم ينطفئ القنديل ويعم الظلام على أرجوحة الشاعر الشاغرة إلّا من ظلِّه الذي يحرك النسيم بتؤدة.
إنها قصة مجانين!
ومن الصعب قبولها، (سيكون عليه أن يرفض كل الذين جاؤوا لتأبينه وسيقول في نفسه ساعة احتضاره «يا لك من شاعر رجيم، كم كنت قادراً على خرق القوانين ومقولات الكتب الصفراء وأحاجي التاريخ ومماحكات الفقهاء ولعنات الساسة، ستخرق التلاوات والسموات بجسدك الترابي الهش، هذا المعجون من طمي ممسوس لا تأتيه الهدأة من بين يديه ولا من خلفه»...
لهذا لن ينتظر رؤية الفجر ولن يشم عطر التربة ولا أثل الحديقة الرطب...
بروحه المجنونة تمتلئ الكلمات بالأحلام وروائح الطفولة، ها أنت تومض في لحظة إشراقه مباغتة وثمة محرقة مقامة تَسمَع أزيزها لأنك لا تريد الدخول إلى المتحف المأهول بالمومياوات والتماثيل الشمعية.
أي شمع قادر على تحمل حرارة الشعر والحنين!!. ضوؤك مكسور كضوء قمر ابتلعته حيوانات الأساطير، وجميلاتك مكدسات بالحقائب في مدن منسية وأخرى مطمورة وسط سهوب تنبح فيها كلاب الجليد... كنت ملعوناً تشبه السادة المقدسين (بودلير ورامبو ولوتريامون واوسكار وايلد)... أفكر برؤوسنا اللامجدية وموتنا الوشيك في هذا الزمن البغيض ونحن نشبه «لوسيفر» في طريقنا إلى الدرك الأسفل من الوعي... كيف يمكن لكل هذا الشغف بالحياة والحب ألا يترك أثرا على جناح الوردة! 
ملعون أنت وقد رجمتك الأوطان والأوثان والمنصات والياقات البيضاء... بقيت جمرة الشعر بين أنياب الزمن فلا هو قادر على اطفائها ولا هي تخبو على الدفاتر... أنفقت سنواتك في رحلات طويلة تبحث عن شيء من الصفاء والحكمة والشعر، لكنك لم تجد غير الجنون والمجون والتسويف والتجديف في حكمتك المتعالية، لا تتفاجأ حين تسمع وأنت تركب قطار الليل همساً تَفهَم منه أنهم يحملون عظامك كلقى سحرية في أكياس الذهب والفضة... كم مرة رأيت أشباحاً تمد أيديها الهزيلة باتجاه ضفافك! وكنت ترْجُمها بالحجارة والحجارة جمر والجمر حبر والحبر شعر تخاذَلَ أمام جبروت محاولات الرسو إلى موانئ بعيدة وآمنة... احترق النخيل وقطعت أعناقه براجمات حرب ضروس واحترقت المسرات وأُسدلت السموات أستارها، وها أنت أمام ثمالة عزلة صقيع كثيف يغطي أهدابك المثقلة بنعاس الموت وقرب محرقة القيامة تمنح جسدك لنار الشعر ورماد فنائه...