عادل الغرابي

ثقافة 2021/07/25
...

حميد المختار 
 
لعلها من الوقفات التي أنهكتني وقادتني إلى كآبة مزمنة ربما تشبه دمعة الشاعر الذي وقف على ذكرى الحبيب والمنزل وصار يبكي بدموع سواجم..
أقول وما بالنا نحن الفاقدين الذين أثكلتنا الأيام السود بأخوَة مزّق أرواحنا رحيلهم المبكر في زمن احترق فيه كل شيء..
يبدأ الحريق من القلوب ويمتد إلى الأجساد وصولاً إلى الجماد والحجر.. يموت الانسان في بلد رحلت عنه الأحلام إلى الأبد، وعادل الغرابي واحد من الأوطان التي رحلت بأجمعها أخذت الجمال كلّه ورحلت ولم تعد الكلمات قادرة على تلاوة آية الحزن والبكاء.. ما تقوله الكلمات لا يدوم لكن ما يدوم هو كلمات الشاعر الذي قالها ذات لوعة حين يلقي إله الشعر في روع الشاعر رؤى وتجليات حتى يُقَد قميص الليل وينبلج فجر الجمال الصافي في تلك الروح الشفافة، روح الغرابي العاشق الذي لن يتوب من هوى محبوبه الراحل إلى السماء مضمّخاً بدمه.. ولهذا نرى السيد عادل في كل عوالمه الشعرية يتبتل في صومعة العزلة، ناسك هو يحتمي بوقار وهمس ودموع، مجذوب في العشق يرمق السماء فتصرعه الآلاء والأنوار في كون مليء بأحجية وأسرار عصية على الأنفس العاشقة..
صادفني ذات صباح في شارع المتنبي وقال: «أستاذ حميد آني عادل، عادل أخو سيد إحسان». 
- آه نعم أيها الحبيب وكيف لا أرى أقمار حضورك..
ثم مضى وجاء صباح آخر ورآني ثم قال: «أستاذ حميد أرجوك لا تنسني أنا عادل»..
عادل وأكملت «أخو سيد إحسان طبعا أيها الحبيب أنت أخ للروح وشقيق للوجع والجمال».. أصبح شارع المتنبي يتيماً بفقده كل اولئك الأحبة والأصحاب وصار الشعر يبكي على وتر الفقد والترمل.. عادل الغرابي أيها الوهج عالمك من نور ذاك العالم الذي عثرت عليه في كسرة شعر صغيرة بعثتها إلى السماء وبفقدك صارت تشذبنا العذابات والأحزان وتشذّب حتى ما عاد لنا شيء من الوجود المادي غير ظلال روح منطفئة، وليس غريباً عليك أن تدفن في قبر فقد كنت مدفوناً كل يوم معنا قبل أن تموت.. كل قصائدك هي أعراس وكرنفالات ترقص مع نجوم السماء تاركة الألم يتبع الألم ثم يمضي بنا سريعاً يقودنا إلى حتوف لا تقف أو تتردد.. كنت تسكب آلامك مع آلام الناس والكائنات معتقداً أنك ستلقي بثقل ألمك بعيداً لكن كل ما تحمله كان ملتصقاً بك غائرا في روحك ليبعثك حراً، وها قد صرت حراً حتى من الجسد بكل أثقاله وبكل آلامه وأحزانه.. غادرت الخوف منفصلاً عن الوجود إلى وجودات برزخية نائية ستخفف من آلامك أيها الشاعر. ما يوحدنا الآن هو الخوف من المجهول المقبل وأنت تخلصت ونجوت منه بأعجوبة، صرت مقيماً في أقاصٍ سديمية هناك تقوم بالتوازن بين الوجود وعدمه، هو توازن كوني آخر تنتمي إليه بكل ما تعشق وتكتب وتريد وصرت محافظاً على ذاك التوازن بحرفك المشع. رحلت وأنت تحمل زهرة وتركت لنا الخناجر والسكاكين، تركت لنا النار والغبار والرماد.. اخبرْ حبيبك أيها الشاعر وأنت ترتع في جنانك، اخبرهُ أننا ما زلنا على العهد في العشق والوجد والعذاب ننتظر ساعة الصفر لبدء رحيل آخر يجتاز الوجود العابر إلى عبور جديد وخلود في الفراديس.