حذارِ من الشفقة .. ما يفعله الحب من طرف واحد

ثقافة 2021/07/25
...

 هدية حسين
 
في روايته القصيرة (146 صفحة) المعنونة (حذارِ من الشفقة) التي كتبها في العام 1902 يذهب الكاتب النمساوي الشهير ستيفان زفايج الى مناطق عميقة من العوالم الداخلية لبطله (هوفميلر) الضابط الشاب الذي ما إن تخرج حتى نُقلت فرقته الى إحدى القرى البعيدة على الحدود الهنغارية، لكن قبل أن ندخل الى مفاصل الرواية نود أن نشير الى أن ستيفان زفايج كتب مقدمة يُبين فيها السبب الذي دفعه الى كتابة هذه الرواية التي تستند الى وقائع حقيقية، وهي، أي المقدمة، بحد ذاتها قصة قصيرة ليس فقط بعدد صفحاتها الـ 13 صفحة وإنما بأسلوبها الأدبي الجميل، ويوضح فيها أنه لم يُدخل عليها (غير بضع تغييرات تافهة اقتضتها ضرورة إخفاء شخصيات أبطالها ومعالم الأمكنة التي جرت فيها وقائعها)، وقد ألقى ستيفان زفايج مهمة السرد على عاتق بطل الرواية الفعلي (هوفميلر) حتى نهاية الرواية التي ترجمها الى العربية حلمي مراد.
لم يكن هوفميلر شغوفاً بالجندية، إلا أن والده العسكري دفعه قسراً إليها ليتخلص من متاعب الإنفاق عليه، لأن الدولة هي التي تتكفل بالمصاريف، وهكذا وجد نفسه بين الطلبة وتخرج ثم انتقل مباشرة الى تلك القرية البعيدة حيث الملل والكآبة والأيام المتشابهة، حتى حدث ما يحرك الحياة ويغير من روتينها ولكن باتجاه لم يكن يتمناه، فبينما كان جالساً في حانوت الحلوى مع صيدلي القرية ونائب العمدة وإذا بفتاة جميلة تدخل وتتجه الى صاحب الحانوت وزوجته، وحين سأل هوفميلر عنها أخبره الصيدلي بأنها إيلونا ابنة أخ الثري كيكسفالنا، كانت قد أشارت الى عدد من قطع الحلوى وخرجت من الحانوت، ولما ظل هوفميلر يسأل عنها وعن خالها الثري الذي ينحدر من أسرة أرستقراطية نبيلة، وعده الصيدلي أن يحصل على دعوة من صاحب الثروة والجاه (هرفون كيكسفالنا) الذي كثيراً ما يقيم الدعوات في قصره، وهكذا بدأت المغامرة التي لم تكن تخطر على باله، وما إن دخل القصر حتى انقلبت حياته رأساً على عقب من خلال تصرف غير مقصود، فقد طلب من إديث ابنة الثري أن تراقصه، ولم يعلم بأنها مشلولة، فسقطت في نوبة من البكاء.
بعد هذا الحادث جاء اشتغال ستيفان زفايج على تلك المشاعر الجوانية لبطله الذي ظل يجلد نفسه ويلومها لأنه لم ينتبه للشابة الكسيحة التي كانت تجلس في عربتها ولا يمكنها المشي، كان منظراً مؤثراً للضابط أن يرى الجسد الهزيل كأنه طفل وهو يتحرك على عكازتين وبمساندة رئيس الخدم ليخرج من القاعة، لقد ارتكب هوفميلر حماقة لا يسامح نفسه عليها وانتابته كآبة لا حد لها، وما عليه إلا إصلاح الأمر، فابتاع في اليوم التالي باقة ورد وذهب الى القصر ليقدمها الى إديث، وهكذا وجد نفسه في الأيام التالية صديقاً للأسرة، يمازح إديث وابنة خالها إيلوانا الشابة الممتلئة حيوية، ويقضي ساعات من الألفة مع العائلة التي سمح فيها كيكسفالنا لهوفميلر أن يأتي وقت يشاء، يشعر في داخله بالشفقة على الفتاة المشلولة فيلبي طلباتها ودعواتها التي لا تنتهي ليكفر فيه عن حماقته، وهو لا يعلم بأنها أحبته من كل قلبها ورأت فيه ضوءا ينير أيامها، ويعطيها الأمل بقرب شفائها الذي تأخر خمس سنوات على الرغم من أن الدكتور كوندور يفعل ما بوسعه، لقد كانت إديث على حافة اليأس حتى دخل الضابط هوفيلمر حياتها، فكيف يمكنه التخلص من هذه الورطة بعد أن واجهته ذات يوم بهذا الحب الجارف من ناحيتها؟. 
الرواية جاءت بأربعة عشر فصلاً، كل فصل يقود هوفيلمر الى الإمعان في شفقته حتى باتت لعنة عليه، لا يمكنه التراجع، قال له الدكتور كوندور إنك تقتلها لو عرفت بأنك لا تضمر لها إلا الشفقة، إنها الآن تعاني من حب يشبه الحمى ولا يمكن للحمى أن تتراجع.. ومن تصرف الى آخر كان الأمر يزداد تعقيداً، ولكي لا يبقى السرد في دائرة هذا الحب المشلول فقد أخذنا ستيفان زفايج في الفصل السادس الى منطقة أخرى هي الماضي الذي لا يعرفه أحد عن الرجل الثري كيكسفالنا، حين انكشف لهوفيلمر سر ما كان له أن يخرج لولا الدكتور كوندور الذي يعرف السر من صاحبه كيكسفالنا الذي اعترف للدكتور  في لحظة ضعف كان  يمر بها حول حالة ابنته التي يتمنى شفاءها قبل أن يموت، وهو فعلاً رجل مريض على حافة الموت البطيء، ذلك الاعتراف الذي انفتح على تاريخ الرجل الغريب الذي لم يكن سليل أسرة أرستقراطية نبيلة بل كان فقيراً اسمه كانيتز وأمه تمتهن غسل الملابس، فكيف أصبح كيكسفالنا ويملك كل هذه الثروة والعقارات؟ قصة كيكسفالنا وحدها يمكن أن تكون رواية، ففيها من الأحداث والمطبات والمغامرات والخداع ما فيها، واعتراف الرجل لطبيب ابنته بقي سراً لم يصرّح به كوندور إلا مضطراً أملته عليه الحالة التي كان فيها الضابط هوفيلمر وانعكاس ما حدث على إديث.
لقد وجد الضابط نفسه مشدوداً لهذه الأسرة في الوقت الذي يريد الانفكاك منها، فأدخلنا ستيفان زفايج الى عوالم تلك النفس الحائرة بين الشفقة أو محاولة الهروب منها، وركز على الاضطرابات النفسية التي تتلاعب بهوفيلمر بسرد عميق مشوّق، قادنا شيئاً فشيئاً الى حالة الأب الذي عرف مشاعر ابنته ولم يقف ساكتاً أزاءها، فأغدق على هوفيلمر الهدايا والدعوات ظناً منه أن ابنته ستتعافى ذات يوم، لكن الدكتور كوندور أكد لهوفيلمر أن عليه أن لا يغالي بشفقته على إديث  فالمغالاة في الشفقة مثل المورفين (ما لم تعرف بالضبط مقدار الجرعة التي تعطيها ومتى تكف عن إعطائها فإن المسكّن ينقلب سمّاً قاتلاً) ص56.
كيف يمكن للضابط هوفيلمر أن يخرج من هذه الورطة، خصوصاً إذا ما علمنا أنه شاب طيب يراعي مشاعر الآخرين؟، هذا ما نتركه للقارئ مع متعة قراءة رواية لن ينساها أبداً.