رحيل نحات النسيان والقمع

ثقافة 2021/07/25
...

  بغداد: الصباح
 
توفي الفنان التشكيلي الفرنسي من أصل روسي (كريستيان بولتانسكي) في باريس عن عمر يناهز 76 عاما، وقد أعلن عن خبر رحيله (برنار بليستين) المدير السابق لمتحف الفن الحديث في مركز بومبيدو في باريس الذي أقام له معرضا عام 2020.
وقال (بليستين) توفي بولتانسكي في مستشفى كوشين في باريس، حيث مكث لبضعة أيام، إذ (كان مريضاً)، مضيفاً: كان رجلاً متواضعاً، وأخفى أمر مرضه قدر استطاعته.
وعمل بولتانسكي أيضا نحاتاً ومصوراً ومنتجا ومخرجا للأفلام، عرف بتركيباته للتصوير الفوتوغرافي وأسلوب المفاهيم الفرنسية المعاصرة.
وطبعت محرقة اليهود هذا الفنان التشكيلي والمصور المولود عام 1944 لطبيب يهودي من أصل أوكراني وأم كورسيكية كاثوليكية، فعمل طوال حياته على الغياب والاختفاء والقلق من الموت، لقد كان مهتماً بفن الذاكرة، ومن ثم خاض حرباً ضد النسيان والقمع.
وعاش الفنان طفولته في باريس أثناء الأربعينات، حينها كان والده مُطاردا بهدف ترحيله إلى معسكرات التركيز، ولينجو بحياته، اختبأ تحت بلاط المنزل في ممر سريّ لعام ونصف، ليعيش حياتين إثر ذلك، الأولى تدّعي الطبيعيّة، والأخرى مليئة بالخوف والرقابة الدائمة، خصوصا أن والده حبيس (الأسفل)، كان يستمع لما يحدث في الأعلى، لكن الخوف منع الجميع من الحديث بالأمر حتى نهاية الحرب، ما ترك أثراً على تجربته الفنية التي يحاول عبرها البحث عن المُختفي والمنسي.
وفي السبعينات قام بولتانسكي باستعادة أرشيف أسرته وحصل على مئة وخمسين صورة قام بترتيبها زمنيا على جدار، محاولا تدوين ما تبقى من ذاكرته بصريّا، وذلك عبر رسم تخيّلي لجيل ماض لم يبق منه سوى صور مشوّشة بالأبيض والأسود.
وليبعث في هذه الصور الحياة اشتغل الراحل في ثمانينات القرن الماضي على توظيف تقنيات التجهيز مستخدما مسرح الظل لخلق التناقض بين النور/ الظهور والظلام/ الاختفاء، وأنجز حينها عملا ساحرا تظهر ضمنه أشباح طفولته، وأطياف أسرته التي طاردته في مساحات منسيّة في ذاكرته.
واستخدم الفنان الفرنسي لإنجاز هذا التجهيز مواد مهملة على وشك الاختفاء، كالأسلاك الحديدية المهترئة، وقطع النحاس المرميّة في القمامة، مجسّدا بناء هشا وحكايات ضبابيّة أشبه بالذاكرة وكيفية تكوينها، فبدا وكأنه طفل يحاول عبر ما علق في ذهنه من صور هشة إعادة تكوين العالم من حوله، هذا العالم الذي لا يحوي إلّا ما هو منسيّ ومخرّب، ولا يكفي لرسم صورة ناصعة وواضحة، بل أشكال ضبابيّة تسائل حدود الذاكرة والمخيّلة.