الهمُّ الفكريُّ عن كونيَّة الشاعر في قصيدة النثر

ثقافة 2021/07/25
...

  بشير حاجم
 
لأنموذجية (قصيدة النثر) بضعة اشتراطات قارّة، ذات قواعد مبدئية وقوانين تفصيلية، يضعها التشذيب النقدي النظري العملي، تحديداً هنا الآن بالضرورة، كي يجعلها هكذا: قريبة من الجمال دائماً، ثم، بعيدة عن القبح أبداً. من أبرز هذه الاشتراطات القارة، مثلاً ليس حصراً، ثالوثها الوجوبيّ الباتّ حتماً: إذ ينبغي عليها به وحده فقط، لا شريك له فيها إطلاقاً، ما يأتي من أفعال: أنْ تؤمن بأنها فعل أصلي، ليست رداً فرعياً، عند المستوى الذاتي الشخصي (الغرضي) - أن تعمل كأنها وسيلة هدفية، ليست غاية مبرّرة، عند المستوى الموضوعي المضموني (الحكائي)- أن تهتدي لأنها مدى حرّ، ليست حيزاً مقيداً، عند المستوى الكوني العولمي (الرائي).
إذاً.. بهذا الثالوث، ذي الأفعال الحصرية لا المثلية، يتوجب على (قصيدة النثر)، التي تابت عن العمودية التناظرية ثم التفعيلية الأحادية لقصيدة الوزن، أن تتّسم بـ: ذاتية جمعية، غير فردية، أي (أنا = نحن / «الضمير» همّاً لفظيّاً) + موضوعية عامة، غير خاصة، أي (وطنك = أوطاننا / «الوجود» همّاً حياتيّاً) + كونية عالمية، غير محلية، أي (أرضنا = الأرض / «المصير» همّاً فكريّاً).
آخر هذه الوجوبات الثلاثة، = الكونية العالمية، يرتبط بأنّ لـ (قصيدة النثر) مزايا نوعية خمساً، إجمالا، لا تتوافر حتّى منفردة سوى في نصوص قليلة لشعراء واعين بها، عفوّيّاً انشغاليّاً و/أو/ ثم قصديّاً اشتغاليّاً، بحسب التمثيلات الاستنادية لـ:
* إيحائيّتها التأويلية، ليست الإخبارية المعنوية، إذ تبتكر استثناءات مُداوِرة مُناوِرة، من دون تكرار اعتيادات مُباشَرة مُجترّة، عبْر مولِّد لساني: كلمة ـ جملة، ذي معضِّد دلالي: علامة ـ إشارة، كأنْ تشتمل على أنسنة شيء عائد لإنسان، مضادَدة لـ ((«قبّعتي مثقوبة» = إخباريّة معنوية)) بـ ((«قبّعتي مكلومة» = إيحائية تأويلية)) تمثيلاً افتراضيّاً، هكذا: في «حدائق البلور» تبسيطيّة الأنسنة «لأزهار» بـ «تجرجر» (يا لأزهار القداح، / تجرجر عطرها خجلاً...!) ـ كأس لحياة أخرى، نصير الشيخ، كتبسيطيّتها بالـ “عبث” لأنّ (الساعة/ أعلى السارية/ تلتهم دقائق الصمت) لولا أنّ (الساعة كما عادتها تدور/ تلوك ثوانيها بوصلة 
عقربها)ـ 
التضاريس تنعطف جنوبا، نبيل نعمة الجابري، بينما هي تركيبيّة بـ «صفْنه..» فـ «التقويم العاطل» لا الفائت «كسريرٍ عجوز» لا قديم (كسريرٍ عجوز/ يلهث سنينك عاريةً/ ذلك التقويمُ العاطل،) ـ وحدي.. الكل معي، عبد الأمير محسن، إذ تزداد تركيبيّتها ضمن «أعطني جناحيك يا زوربا» (تُبرئ جسدك من قيد الخطيئة/ ثم تغني للحبّ العاري/ وأنا أحرس من التسوّس قصائدي/ تحت سماء تُخبئ الموت/ في ملابسها الداخلية.) ـ أقيس البحر بنوايا العاصفة، ثامر سعيد.
* سرديّتها التداخلية، ليست الحكائية التجنيسية، أيِ المنفلتة من التجنيس، حتماً، لكي تبدو «قصيدة»، لئِلّا تغدو «قصة»، كأنْ تشتمل على مفارَقة مفاجِئة إزاء متوقّع مؤكّد، مضادَدة لـ ((«كان شرطيّاً فلمْ يصرْ حزبيّاً وحين تقاعد انتمى لحزب» = حكائيّة تجنيسية)) بـ ((«كان شرطيّاً فلمْ يصر حزبيّاً وحين تقاعد فتح دكانّاً» = سردية تداخلية)) تمثيلاً افتراضيّاً، هكذا: مع أيّة حربٍ سلام بـ «صباح الخير أيّتها الحمامة» (إليّ بلامة حربي/ وأسرجوا مهرتي الصموت/ سأقول لنفسي/ صباح الخير أيّتها الحمامة) ـ أغاني الصموت، ولاء الصواف، هنا معيّةٌ مماثلةٌ لها كـ «غواية» هذي المعيّة (هذه العزلة/ أرصفة الجنوب/ ولفرط الهول/ سأفتش عن أنباء الورد.) ـ خارطة الريح، عصام كاظم جري، كلتاهما مفارقةٌ كهذه المفارقة لـ «النسخة الأصلية مني» (تتكرر الحرب.. / أنت تبدو من 
بعيد/ أما أنا.. أو النسخة الأصلية مني/ فأظن/ مفردة تتمدد على سوء الحظ) ـ المطر يركض إلى معطفك، محمد أحمد فارس، بينما «الأجملُ أن...» كلُّه مفارقات (ذات صباح/ فتحتُ النافذة فرأيت.../ الله! / أغلقتها/ ثم فتحتُها لإكمال الدهشة/ - الله! / فرأيتُ شجرة مسرعة بين الفصول/ يا الله/ أخيراً رأيتُ ما لا يُرى/ بقيت النافذة تُفتح وتُغلق عليّ) ـ أجنحة لشواهد الحب، محمد جابر أحمد.
* عينيّتها البصرية، ليست الأذنية السمعية، بحيث تختبر معرفتنا الكتابوية، لا تخاطب مثاقفتنا الشفاهوية، فتستثمر الورقة لأجل التوصيل، تلقّياً، كأنْ تشتمل على تنقيط أفقي في سطر سوادي للإحساس بالوقت، مضادَدة لـ ((«أسيرُ ثم أتوقّفُ» = أذنيّة سمعية)) بـ ((«أسيرُ... ثم أتوقّفْ.» = عينية بصرية)) تمثيلاً افتراضيّاً، هكذا: ينفتح التنقيط منذ البداية أمام «مائدة للشعراء» على تعدّد الأبواب واتّساع مدينتها لهم (فتحت أبواب مدينتي.. / وأعددت الأطباق والصحون، / للشعراء الملعونين، / المطرودين من الفردوس:) ـ أنا راء المعنى، راقية مهدي، لكنّه عند النهاية أغلب وأشمل: بـ «مساحات يقظة» عن جدْب مستمر (ما الذي/ تضمره الغيمة/ حين/ لا تمطر...؟)ـ تفاصيل قلقة، عبد الحسين فرج، ثم «طريق المُسودة» عن موت أبدي بـ (أنْ تتبادل الجثث كثيراً، ودائماً...) ـ لا شيء سوى الطريق، ميثم الحربي، كذلك مع سرب «الغربان» عن صراع طويل (أقرأ للجالسين بقربي/ قصائد عمّا يجول برأسي/ عن حرب قادمة/ يقول أحدهم: قد تتأخّر هذه المرّة/ ربما، لا يقصدُ الحرب..) ـ مثل غيمة بيضاء، نامق سلطان.
* إيقاعيّتها الحسية، ليست العروضية اللمسية، أي الداخلية تخمينيّاً، غير الخارجية توصيفيّاً، ممّا يُحْدثه أسلوبها، بلاغيّاً، كأنْ تشتمل على أيّ تكرار متحرّر من أيّة تقفية مقيّدة، مضادَدة لـ ((«لا تعودي خائفةْ/ لا تقولي آسفة/ لا تكوني نازفة» = عروضيّة لمسية)) بـ ((«ثانية تعودين كخوفٍ/ ثانية تقولين آسفة/ ثانية تكونين 
نزفاً» = إيقاعية حسية)) تمثيلاً افتراضيّاً، هكذا: ثمة تكرار العنوان «كلما قلت...» في المتن منذ استهلاله (كلما قلت، «أنا خيمتك»/ ... توخزينها بالدبابيس، / وتقولين:/ سقفك أتلفه المطر.) ـ حروف اسمك، أمير ناصر، وثمة بحسب «خليع البلاغة» تكرار لازمة في مقطع (لهيبُ رمالٍ/ يُذرّى علينا/ كي لا نرى أبعد من أرنبة اليوم/ لهيبُ رمالٍ/ لا يُطفئه سُرى كلمات/ لهيبُ رمالٍ/ كبياض الورقة/ ينتظر إمضاء الفعل) ـ ترنيمة سوداء، باقر صاحب.