الفاعلية الحدثية والسيرورة المتناوبة في (بانت سعاد)

ثقافة 2021/07/25
...

  علوان السلمان
القصة القصيرة فن زمني، وتعبير عن رؤيا تجاه الكون والحياة والإنسان، إنها القدرة على التوليف بين الافكار والتخييل لخلق الصور المستفزة لذاكرة المستهلك (المتلقي)، لتحقيق نوع من التواصل بين العلاقات الخارجية والداخلية عبر الحدث ووحدة الزمان والمكان وبناء الشخصية بشكل متنامٍ، باعتماد الحكائية السردية التي تهتم بمكنونات اللغة الموحية لإضاءة النص.
 
وباستحضار المجموعة القصصية (بانت سعاد) التي نسجت عوالمها النصية أنامل منتجتها القاصة رغد السهيل واسهمت في نشرها وانتشارها المؤسسة العربية للدراسات والنشر/2021.. كونها نصوصا متنوعة المشارب، متباينة الاتجاهات والقضايا، يجمعها الهم الانساني والوطني والاجتماعي والنفسي..         
 (ما زال السيد وطن لا يفهم ما الذي حدث لبنطاله.. يحدثه قلبه بصدق الخياط ولا يجد لذلك تفسيرا.. في حين التزم اهل بيته جميعا الصمت.. بينما الخياط يحدثه قلبه بأنه فعلا قص البنطال من دون ان ينتبه أكثر من اللازم فيلوم نفسه كثيرا.. ويضع اللائمة على كبر سنه.. ولكي يتجنب اية مشكلات مماثلة في المستقبل علق لافتة على واجهة محله: نعتذر عن اصلاح أي بنطال..) ص 12..                                      
 فالنص يستند الى الفاعلية الحدثية التي تتميز بسيرورة تعاقبية مع حوارية ذاتية وجمل فعلية دالة على الحركة (يحدث/ التزم/ قص/ ينتبه/ يلوم/ يضع..) والتي اسهمت في تسريع السرد، فضلا عن الاختزال والتكثيف والايجاز واللغة الموحية بألفاظها الخالقة لمشاهدها السردية التي تتميز بسيرورتها التعاقبية.. وهي تغوص في أعماق الذات بقدرة مازجة ما بين التصوير الخيالي والحدث السردي، مع توظيف لغة محكية وتقنيات فنية اسهمت في تحريك السرد وتناميه.. من خلال توخي الايجاز وعمق المعنى، بأسلوب السخرية السوداء..                                                                              
(تشبثت بها والتصقت بجسدها وأنا أعارك الذي يسرقها مني.. كنت أسحب وكان يسحب وهي بيننا مسدلة في فراشها.. هزمني الآخر وأرعبني بعضلاته المفتولة.. لم تكن مرئية لهم ورأيتها وحدي.. ثم ذهلت كيف رحلت وهي بين ذراعي؟ حينها انحدرت دمعة يتيمة مسالمة على وجنتها اليمين.. كان وجهها ورقة صفراء يابسة.. بللت شفتيها بقطرات ماء ففتحت عينيها ومنحتني نظرة اخيرة تركت في قلبي ثقبا للأبد.. ثم شخرت وشخرت.. واصلت الشخير بإيقاع مرغب متسارع.. فزعت من هول المنظر.. أخيرا كفت الرقبة عن لعبة الزنبرك.. هدأ الشخير تدريجيا حتى انقطع.. بلحظتها قررت روحي ان تسكن جسدي بعد ان لملمت دبابيس الوحشة خلال رحلة الصعود والهبوط معلنة انتهاء عملية قطع حبل الوصل مع الرافدين ومن دون تخدير.. سحبوني منها عنوة.. أسدل أحدهم الجفنين وشعرت أنني غدوت من ذوي الأطراف الناقصة.. تلمست أطرافي وجدتها مكتملة.. وما زلت الى اليوم أفكر كيف استعادت الشمس شروقها بعد أن بانت سعاد؟ ألا أنها بانت في البستان ايضا..)  ص41 ـ ص42..                       
فالساردة توظف ضمير المتكلم والغائب الذي يجعل الرؤية هي المهيمنة على الحكي اسلوبا في سرد الاحداث وما تحمله من تناقضات ومفارقات تكشف سيميائيا عن هواجسها بلغة يومية تمتزج وحركة الواقع وعناصره وجزئياته لينبثق منها عالم يشكل رؤية المنتجة (الساردة).. فضلا عن توظيفها لتقانتي الاستباق الزمني والاسترجاع الذاكراتي. والتضمين الشعبي التراثي الذي يحتفي بالهوية الثقافية كونه مرتبطا ارتباطا وثيقا بالذاكرة الجمعية الشعبية وهي تمهد له بقولها وصار يصفق ويغني: (هالطير كرخي للرصافة اشجابه) ص22.. وتوظيف المشهور من القول في بداية بعض النصوص (ص13/ ص25/ ص43/ ص59/ ص79/ ص93).. 
مع اعتماد التكثيف والاختزال والانزياح السردي كعوامل مساعدة على نمو النص ونجاحه، ابتداء من العنوان العلامة السيميائية والعتبة الدالة بتشكيله (نقطة ذهاب واياب الى النص) على حد تعبير جيرار جنيت، والتي تسهم في فك مغاليقه، والذي تشكل تركيبيا من جملة فعلية دالة على الحركة المكتظة بابعادها ودلالاتها الدافعة لاكتشاف العوالم النصية.. والذي اعتلاه اسم المنتجة وصورة رامزة لـ (سعاد) بؤرة النص المتضامنة والنصوص الموازية المتمثلة في العنوانات الفرعية والاهداء التي شكلت نصوصا موازية متعالقة مع النص والتي تشير الى تشابكاته وفضاءاته، وهي تتناول الواقع الاجتماعي بكل تناقضاته وصراعاته وما تفرزه الحروب من انهيار الذات الانسانية بكل اجناسها وانعدام الاستقرار المجتمعي الذي يعكس نتائجه السلبية على الفرد عموما والمرأة خصوصا.. بتوظيف لغة موحية بألفاظها لتخدم الفكرة وتوصيف الاحداث..                                                                                      
 وبذلك قدمت المنتجة (الساردة) نصوصا سردية متفاوتة في مساحتها (طولا وقصرا) واختلاف طبيعة السرد والشخوص مع تعدد مستوياتها اللغوية والحكائية فأنتجت عملا أدبيا عميق المضمون بانتقاء الافكار والرؤى وزاوية الرؤية المحققة لبنية سردية متماسكة بوحدتها الموضوعية عبر خطاب تميز بلغته الموحية واوصافه التصويرية واحداثه وشخوصه المستلة من الواقع والمتماهية مع المخيال الحكائي بوساطة فضاء مفتوح يستوعب الزمكانية..