الجواهري.. صوت الشعب في الانتفاضة والإصلاح

ثقافة 2021/07/27
...

 د. سعد التميمي
 
ونحن نعيش ارهاصات انتفاضة تشرين التي  خرجت للمطالبة بإصلاح النظام السياسي الذي تشبع بالفساد تمر علينا اليوم 27/7 الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، وشاعر القرن اذ عاش ما يقارب القرن (من 26 تموز 1899 الى  عام 27 تموز عام 1997) الذي لم يمنعه كونه شاعر البلاط الملكي والجمهورية من أن يكون صوت الانتفاضة والاصلاح، وقد ترك تراثا شعريا كبيرا تضمن العديد من القصائد الرائعة والخالدة في الشهداء والوطن والهجاء والسياسة وغيرها، وهذا التحول نجده في (انا) الشاعر التي تارة نجدها مضخمة يعتد بها الشاعر وكأنه يستحضر قول المتنبي (انا الذي نظر..) فتراه يستحضر فعله الشعري في الحياة وما حققه من تأثير متفرد فيقول: 
أقــــول لنفسي إذا ضــــــمّها/ وأترابـــــــها محفــــل يزدهــى
تسامي فأنت أعزّ النفوس/ إذا قيس كل على ما انطوى
ويقول في قصيدة أخرى في دمشق يؤكد انتماءه للعراق بدجلته وفراته رمزي الحياة والخيرن ويؤكد مكانته الشعرية في صور معبرة:
دمشق: لم يأتِ بي عيش أضيق به/ فضرع دجلة لو مسّحتُ درّارُ
لو شــئتُ كافأ مثقالاً اصرّفه/ شــعراً من الذهب الإبريز قنطار
أنا العراق لسـاني قلبه ودمي/ فراتـــه وكيــاني منـــه أشــــطارُ
إلّا ان هذه الـ (انا) المتضخة التي يريدها الشاعر أن تكون مغايرة ومتعالية (أنت أعز، مثقال شعره بقنطار ذهب، أنا العراق) سرعان ما يعترف بانها لا تختلف عن غيرها ليجلدها ويعترف بمساوئها ويؤكد صدق اعترافه (لا أكذبنك) ويخبر عن نفسه بالآثم الأشر اذ يقول:      
لا أكذبنــك أنني بشـــــــــر/ جــمّ المســــــــاوئ آثم أشـــر
لكم شقيت بما بصرت به/ فوددت أني ليس لي بصر
النفس شامخة إذا ظفرت/ بك ساعة والكون محتقر
إلّا انّ هذه الذات بقيت في صف الشعب وانتفاضته ضد الظلم، اذ وظّف تجربته الشعرية الغنية وحضوره المؤثر ورؤيته الاستشرافية في خوض معترك التمرد في وجه السلطة التي لا تلبي طموح الشعب، فجاءت القصائد لتعبر عن تفاعله مع واقع متغير ومتحول، ليتماهى شعره مع الروح العراقية على امتداد أربعة عقود، وتصبح قصائده صورة مجسمة للحياة العاطفية والثقافية والسياسية، وتحقق البعد التداولي من خلال ما انجزته من افعال ترجمتها الانتفاضات التي كانت تصدح بالقصائد وتحول الخطاب الشعري الى فعل انجازي في الواقع، اذ كانت قصائده في تماس مباشر مع الجماهير من خلال انخراطه المباشر في الحياة السياسيّة، فضلا عن تحريضه بالثورة على الحكّام الفاسدين في العراق وخارجه، مما جعل للقصيدة دورا فاعلا في توعية الجماهير للثورة على الحكّام الطغاة، جاعلا من قصائده ملاحم تمجد بطولات المناضلين والشهداء في ساحات الانتفاضة، وعبر عن اندماجه مع الفقراء والاحرار في اكثر من قصيدة ومنها قوله:                                 
هذا أنا عظمُ الضحيّة ريشتي/ أبدًا ولفحُ دمائها أضوائي
أستلهم النغم الخفيّ يموج في/ جرح الشهيد بثورة خرساءِ
وأحــسّ أنّ يد الشهيد تجرّني/ لتلفّني وضـميـــــره بــــــرداءِ
فالصور الشعرية التي تنضوي عليها هذه الابيات تعكس القدرة الكبير للشاعر في تحديث القصيدة من الداخل من جهة، واندفاعه مع الاحرار الذين رفضوا الظلم والاضطهاد بأشكاله المختلفة، وهذا الاندفاع ينطلق من ايمان بالقضية التي طالما رفع شعاراتها في قصائده، وهذا ما تعكسه الصور (عظم الضحية ريشتي/ لفح دمائها أضوائي/ النغم الخفي يموج../ ثورة خرساء/ يد الشهيد تجرني/ لتلفني وضميره) القائمة على التوازي ففي كل بيت صورتان تتوزعان بين شطريه، والشاعر يؤكد وفاءه للشهيد وثباته على القضية التي ضحى من أجلها، فالشهيد هو من يصنع الحرية والخلاص للشعب، وهذا ما يؤكده في قصيدة (يوم الشهيد) اذ يخاطب الشهيد قائلا:                                                   
بكَ “يبــــعث” الجيل المحتّم بعثـــه/ وبـك “القيامـــة” للطغاة تقامُ
وبك العتاة “سيُحشرون” “وجوههم/ سود”، وحشو أنوفهم إرغامُ
 فالشاعر يؤكد ان دماء الشهداء في انتفاضتهم ستعيد الأجيال في صورتين تقومان على التقابل والتضاد، ثم يأتي بصورتين تقومان على التماثل والتوازي (وجوههم سود/ أنوفهم ارغام) وقد كان الجواهري يمتلك رؤية استشرافية يعطي فيها الأمل للذين يصارعون الطغاة فيقول:
باقٍ (وأعمار الطغاة قصار) / من سفر مجدك عاطر موار
فالوطن بأحراره الرافضين الطغاة الفاسدين باق للأبد وأعمار الطغاة الفاسدين قصيرة في صورة تقوم على التقابل ويصور في قصيدة أخرى أن الرياح ستعصف بالطغاة الجاثمين على صدر الوطن ليتنفس الصعداء فيقول: 
عصفت بأنفاس الطغاة رياح/ وتنفست بالفرحة الأرواح
ومما جعل الجواهري ينجح في خلق التفاعل مع قصائده، فضلا عن موضوعاتها التي استقاها من تطلعات الجمهور المزاوجة بين التراث والحداثة، اذ يقوم شعره على الصياغة الكلاسيكيّة ذات العمق التراثي المتمثل بالشعر العبّاسي من خلال الأسلوب خطابيّ والإيقاع الكلاسيكي الذي يقوم على البحور الفخمة كالطويل والكامل والبسيط والوافر، فضلا عن معجمه الشعري الذي يتناوب بين غريب اللغة والصنعة المحكمة مما يجعل المتلقي احيانا يجد نفسه امام شاعر قريب من المتنبي أو ابي تمام أو البحتري، ومما يعزز ذلك لغة الجواهري التي تميل للتلميح اكثر منها الى التصريح، ويتحكم في كثير من تراكيبها البعد العقلي ليكون شاعر فكر أولا ثم عاطفة تظهر بين الحين والآخر، لكن ذلك لا يلغي مظاهر التجديد في كثير من قصائده على مستوى المضمون، اذ اسهمت مشاركته الفعّالة في الحياة السياسيّة في العراق في هيمنة الموضوعات السياسيّة على شعره.