مدن الحداثة

آراء 2021/07/27
...

   صلاح حسن الموسوي
باستعارة المنهج العلمي الاحيائي، يضع عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركهايم، مقارنة بين المدن الكبرى والمدن الصغيرة، بتشبيه الثانية بكائن الهايدرا وهو ابسط الكائنات الحية الموجودة في الطبيعة، حيث ان هذا الكائن بعد شطره الى نصفين له قابلية على استمرار الحياة الطبيعية للشطرين المنقسمين، في حين يشبه دوركهايم المدن الكبيرة بصنف اللبائن وهي الأكثر تطورا في سلم الكائنات الحية.
  
والمقصود ان الطير مثلا يموت عندما يستهدف بعضو حساس من اعضائه كلي رقبته، ويضرب مثلا مدينة مانشستر البريطانية مركز صناعة الأنسجة في العالم انذاك، حيث تتوقف الحياة في المدينة الصناعية المتطورة عندما تحرم من مادة القطن التي تقوم عليها صناعتها، ويمكن الأستدلال بمثال معاش حاليا يؤيد ماذهب اليه دوركهايم، وهي اثار جائحة كورونا التي اصابت المدن العالمية الكبرى بمقتله، قياسا بالمدن الصغيرة وتسببت بخسائر اقتصادية عظيمة نتيجة للهزة التي اصابت نمط الانتاج المعقد والمتطور، كذلك النسبة العالية للمصابين بالوباء نتيجة الاختلاط بواسطة شبكات النقل الكثيفة ووسائل اللهو المتاحة، اضافة الى معسكرات اللاجئين المزدحمة بالأجانب الذين هجروا عالمهم البسيط الى عالم الغرب المعقد.
 الثقافة هي الحمض النووي للمدن بحسب تعريف الكاتب البريطاني شارلز لاندري، الذي قام بتبسيط مفهوم المدينة الإبداعية منذ الثمانينيات كما يلي: "هي المدينة التي تُبيّن لنا من نحن، أين نتواجد، من أين أتينا، وإلى أين نحن ذاهبون". وقيل ان الثقافة والسياسة بمعنيهما المتشعب والمعّقد فنون مدنية بحتة، فالتركيب والتنوع والمرونة هي صفة العقل المدني، وهنا الحديث خاص عن مدن تحمل نواة صلبة لثقافة مرنة وحديثة تمنح الفردانية مجالها الابداعي المناسب، وليست المدن المتريّفة التي يغلب عليها الترابط القبلي وتبجيل خصال الانصياع الجماعي وقوة الممانعة تجاه استحقاقات التغيّر الجيلي، فمثلا اشتهرت المدن الكبرى في العالم العربي بقدرات الانتاج الفكري والأدبي والسياسي والفني وضخه لبقية المدن، والرواية العربية كفن جديد اقتصر ظهورها في البدء على مدن القاهرة وبيروت نظرا لطبيعة التنوع والتعقيد والأنفتاح العالمي لهذه المدن، مما ساعد على رفد الخيال بالمادة الخام للسرد القصصي والروائي، وتخليق صنعة السينما في ما بعد، خلافا لفن الشعر قديم الوجود ومتاح الانتاج في مختلف الأجواء السيطة والمعقدة، للأرياف والمدن الصغيرة والكبيرة.
نشأت المدينة الجديدة، - بل فتح الباب- لنشوء آلاف المدن مع العصر الصناعي، واختفت المدينة القديمة ذات القلاع والأسوار الفاصلة بين الحضر والريف، حيث اصبح المصنع هو النواة الجديدة لنشوء المدن، بحكم الحاجة لسكن يأوي اليه العمال، واسواق واماكن ترفيه لحياة العاملين وأسرهم، ويمكن الحكم على المدن التي ما زالت رثة ومتخلفة، بكونها موطن المجتمعات المتخلفة صناعيا  ويحيا سكانها الاستهلاكيون بقّيم ما قبل الصناعة كالأسطورة والخرافة والقبلية والطائفية الدينية، ومع عصر العولمة شاع اصطلاح المدن الذكية او الكوكبية، اذ باتت مدن كنيويورك ولندن وشنغهاي وبومباي، تمثل كيانات عالمية مكتفية بذاتها خارج التعريف السياسي المعهود للدول وتابعية المدن المنضوية تحت سيادتها. ويعود الفضل في ذلك للاستخدام المكثف لوسائل الاتصالات والتقنية الحديثة، وانتشر على صعيد الثقافة مفهوم الثقافة السائلة او الحداثة السائلة، كنقيض لثقافة الحداثة الأصلية التي انتجت السرديات الكبرى كالداروينية والماركسية والفرودية والوجودية، والتي كانت تحمل في جوهرها الغايات المثالية والخلاصية للبشر، وبات البديل الطاغي في العصر الجديد هو ثقافة الموضة و التفنن في استثارة الحاجات، التي من الممنوع اشباعها وذلك وفق فلسفة السوق الجديدة والاقتصاد الرقمي، وكوننا شعوبا تسمى بالعالم ثالثية لم تتجاوز حتى الآن حقبة الحداثة لتنتقل ثقافيا الى هموم مابعد الحداثة، لا بد من وجود او خلق النخبة المدنية الحداثية لمقاومة صدمة ما بعد الحداثة وحماية المجتمع والدولة من الأنسياق خلف البنى المؤسطرة واللاواقعية، فالمجتمع الغربي كان انتقاله لثقافة ما بعد الحداثة طبيعيا بعد ان استوفى استحقاقات القفزة الحداثية، اما مجتمعاتنا فيشهد التاريخ على تجاربها مع اجتهادات حرق المراحل وحصائلها من الهزائم والتقهقر والنكوص. فالحداثة المشوهة في مدننا مزمنة وبائنة دائما، كون ما جلبناه من الغرب، الحداثة من دون ان نرتقي الى تأسيس منتج هذه الحداثة وهو الصناعة او المجتمع الصناعي.