(ليس صفراً) معرض تشكيلي تحت لهيب شمس البصرة

ثقافة 2021/07/27
...

 البصرة: صفاء ذياب
 
على الرغم من حرارة صيف تموز اللاهبة، ورطوبة الجو التي تجعلك تتنفس بصعوبة، لكن هذا كله لم يمنع أربعة فنانين أن يصرخوا بوجه العالم أنهم ليسوا صفراً، هذه الصرخة التي قرروا أن تكون عنواناً لمعرضهم المشترك الذي أقيم على قاعة جمعية الفنانين التشكيليين في مدينة البصرة، فكان (ليس صفراً) مخاضاً جديداً لولادة فنية من قلب هذا الصيف اللاهب. قدّم الفنانون الأربعة، وهم: حسن فالح، ناصر سماري، أسامة حمدي، وحامد سعيد، معرضهم الجديد بقولهم: للأصواتِ ذبذباتٌ ومعانٍ وجُدِتْ حاضنتُها الكبرى في انفتاحِ عوالمِ الافتراضِ المعاصرةِ، لتُصبحَ هجيناً ملتبساً في كلِّ مسموعٍ ومرئيٍّ، لكنها تكمن وتنزوي عميقةً داخلَ الأرقام عصيةً على غيرِ أهلِها. (ليس صفراً)؛ الصّفرُ مُغيبُ المعنى والدلالة، وقرينٌ في الذهنِ العامِّ للعدمِ والتلاشي، بخلافِ حقيقتهِ الكبرى. هو رحمٌ يستوعبُ كلّ بدايةٍ ممكنةٍ وعلى أرضه ينبُتُ الواحدُ وما بعده، وهو شرارةُ الخلق وسرُّ الأرقام منه تنطلقُ وعليه ترتكز وإليه تعود، لتتنامى وتعظُمُ. هكذا قيل؛ وهكذا قامت فكرةُ المعرض، ساعيةً لتدوينِ خطابٍ بَصَريٍّ وثقافةِ عَرْضٍ مخالفةٍ لانتقائيةِ الوقتِ والزمانِ، وتيارٍ متصاعدٍ مع حرارةِ البصْرةِ تماهياً مع كينونتِها وأهميتِها المغيّبة. (ليس صفراً)؛ إنّها رحمٌ مثقَلةٌ بالحِسِّ والدلّالةِ والتعبير والعاطفة، من مخاضها تجربةٌ فنيّة لأربعةِ فنانينَ بَصْريين تبعثُ رسائلَ الجمالِ والتحدي والاحتجاج. المعرض عرض أربعة تجارب مختلفة، فلكل فنان خطابه الخاص واشتغاله الذي يختلف عن الفنان الآخر، لكنهم في النهاية أرادوا أن يرسموا خطاباً فنياً يمكن أن يسهم في رسم صورة بصرية مختلفة، بعيداً عن الجفاف الذي تعيشه مدينة البصرة، مادياً ومعنوياً.
 
لماذا الصفر؟
يتحدث الفنان حامد سعيد لصحيفتنا عن العنوان وعلاقته بالمعرض الجماعي الذي قدموه، قائلاً إنه في المفاهيم الفلسفية والفكرية الصفر ليس صفراً، بوصفه قيمةً موجودة، اختلفت هذه القيمة عبر العصور، فكان في الفلسفة البابلية هو (اللاشيء)، وأصبح في العلوم شيئاً قائماً بذاته، بل يعني في بعض الأحيان أنه كل شيء. وهذا يرتبط حتى في مفاهيم الرسم، كاللون والخط، فعندما تبدأ على سطح اللوحة تبدأ بالصفر، أو النقطة، ومع امتدادها تكون خطوطاً ومنعرجات وألواناً، لهذا فإننا نشعر بأنَّ المعاني التي تحيط بالصفر تخصنا نحن، حتى بداية العمل التشكيلي يبدأ من رحم الصفر، فينجز فيما بعد.
مضيفاً: في مفهومنا كاقتراح كان الصفر ليس صفراً، وهذا مفهوم شامل يعم الحركة في المدن العراقية بصورة عامة، ويعني أن الإنسان العراقي في هذا الوضع، حتى وإن كان سيئاً ليس صفراً، بل أرقام، إن كان كوجود أو كحساب بشري، بعيداً عن الموضوع السياسي، لكنني أتحدث بوصفنا فنانين وأدباء وناشطين، نحن لسنا صفراً في هذا المجتمع، بل كيانات ومسميات.
واختيارنا لهذا العنوان كان أشبه بالانتفاضة، وبالانقلاب في مفاهيم الفن التشكيلي، وهو ما دفعنا لإقامة هذا المعرض في منتصف شهر تموز في عز فصل الصيف، حيث الحرارة المرتفعة، والرطوبة الخانقة، والشمس التي تحرق الرؤوس. فعادة تبدأ المواسم التشكيلية من شهر تشرين الأول حتى شهر نيسان، لكننا حاولنا أن نراهن على وعي المواطن البصري، وأن نكسر رتابة التوقيتات ونعرض في مأساة البصرة الساخنة، مع الأخبار السيئة التي تملأ أذن المواطن البصري، والحالة السلبية التي يعيشها المجتمع، ومن ثم راهنا على الجمهور الواعي، وقدّمنا تساؤلات قبل البدء بالمشروع، من أهمها هل هناك جمهور يوازي الجمهور الظلامي، وهل هذا الجمهور يحتاج نافذة جديدة؟ ورهاننا كان على حق، فقد أذهلنا الحضور الجماهيري للمعرض، وهو ما يثبت أن هناك جمهوراً موازياً للجمهور الذي يبحث عن أخبار العنف أو من يمارسه بحق المواطن العراقي، وهذا الجمهور يحتاج لهذه الحياة المختلفة المليئة بالفن والحياة الإبداعية وهذه النافذة الجمالية, وهنا تكمن رسالتنا لمدينتنا، وأن لا نبتعد ونقول إن الوضع لا يصلح للفنون. ومن ثم علينا أن نقدّم معياراً حقيقياً للثقافة لكي لا تأتي أجيال من بعدنا ولا ترى إلا القبح والخراب.
ويرى سعيد أن الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي كوّنت مؤسسات وجمعيات وهمية، وكلها تقدّم شهادات إبداعية وصلت إلى حد انتشار الدكتوراه الفخرية من مؤسسات لا وجود لها، وهذا أنتج ثقافة مغايرة للثقافة التي نريد لها أن تبقى وتتطوّر مع مرور الزمن، ومن هنا نحاول أن نثير رغبة الفنانين الحقيقيين بتقديم أعمالهم والنهوض مرة أخرى لمواجهة هذا الخراب الثقافي الذي يتأسس من الفراغ.
 
أعمال جماعيَّة
وفي إجابته عن تساؤل عن أسباب اشتراك أربعة فنانين في معرض واحد، يكشف الفنان الدكتور ناصر سماري بأننا لم نعتد أن تكون هناك جماعات تشكيلية تطرح شيئاً مختلفاً، لكنّنا هنا لم نأتِ بشكل طارئ، فنحن لسنا جماعة فنية، بل كانت هناك مسؤولية من قبلنا على طرح عمل تشكيلي جديد في مدينة تنعت دائماً بالهامش، ومن ثم تتناسى قيمتها التشكيلية والمعرفية وما قدّمته للفن التشكيلي المعاصر، ولضعف وجود قاعات في البصرة، فليس لدينا قاعة عرض واحدة في المدينة، وعليه أردنا أن نطرح شيئاً مختلفاً لا يعبّر على أنَّنا جماعة، ولا نريد أن نعرض كما يعرض الآخرون، ومن ثم قرّرنا أن نتحمّل هذه المسؤولية لعرض لوحات تشكيلية في قاعة صغيرة مثل قاعة جمعية الفنانين التشكيليين.
وعن الرابط بين الفنانين الأربعة، يشير سماري أن ما يربط بينهم هو الانتماء للوطن والهوية وحب التخصص والإبداع فيه، هذه عناصر مشتركة، لاسيما أنهم متجايلون أيضاً وفي مدينة واحدة، وتجمعهم صداقة خاصة، وهناك آصرة مهمة وهي الاستعداد وتحمل المسؤولية، بل «قدّمنا عرضاً جماعيا لم يكن مخططاً له منذ مدة، نحن نحمل الكثير من الأشياء المشتركة، وهي الضغوط التي نواجهها جميعاً، ولم نجد ما يواجه هذه الضغوط إلّا بالفن والهم الإنساني. نعتقد أن كل ما تحدثت عنه ينطبق على اسم المعرض (ليس صفراً) فنحن تعدينا عتبة (صفر سالب) ونقف على نقطة بداية سننطلق من خلالها، بل هو عنوان يطلق تقنياً كنافذة على أعمالنا مجتمعة».
 
تجارب مغايرة
الفنان حامد سعيد يقدّم في هذا المعرض تجربة جديدة ومختلفة عن أعماله ومعارضه السابقة، موضحاً أنه حاول هذه المرة أن يقدم مفهوم التبسيط والتقليلية في سطح اللوحة، وهو مفهوم ليس وليد اللحظة، بل اشتغل عليه الكثير من الفنانين، لكنه ارتبط بهذه التقليلية بالرمز والخط والشكل، مع الفراغ الموجود في اللوحة سيكولوجياً.
مؤكداً: أنا أدوّن المدينة، فأنا لا أسمّي نفسي رساماً، بل مدوّن، فقد أطلقت اللغة كلمة الفن على الرسم، فما كان موجودا قبل وجود اللغة كان يسمّى تدويناً، وهو ما وجدناه على جدران الكهوف، فلم يمتلك ذلك الإنسان اللغة، بل امتلك الخطوط ويدوّن أيامه على الجدران سمّي فيما بعد رسماً. فذاكرتي ترتبط بطفولتي بالمدينة، ببساتينها وأنهارها ونخيلها وأزقتها، تلك الذاكرة التي احترقت تماماً، أصلاً وصورة، لهذا حينما أدوّن طفولتي الآن كان عليَّ أن أدوّن بالتفكير الذي كنت أرى فيه المدينة حينها، حينما كانت طفلاً، وبالهاجس نفسه الذي كنا نسمّي خطوطنا حينها خربشات، وهنا لا أستعرض نفسي كرسام، بل مدوّن ومستعيد عاش حقبة جميلة قبل أن تحترق مدننا وتصير على الشكل الذي وصلت إليه من القبح. حاولت أن أختلف عن تجاربي السابقة، فليس من سمات الفنان التكرار بالأسلوب نفسه، ولديك جمهور يجب أن تحترمه أيضاً، فأنت تقدّم أطروحتك وثيمتك من بيئة إلى بيئة أخرى، فتجرّب رموزاً مختلفة وتقنيات جديدة لتكتشف تفاصيلك الأخيرة. كما استخدمت المواد البسيطة، من ألوان وأقلام وكارتون يشبه لونه لون التراب الذي تربينا عليه، وهنا تكمن ملامح التغيير في هذا المعرض.
في حين كان خطاب الفنان الدكتور ناصر سماري تشكيلياً بالدرجة الأولى، «يجب أن يعالج حينما يسلك لفترة طويلة سلوكاً تقليدياً، ويبدأ باستعادة رسالته الفنية، لأنّه يخاطب الحس ويحاول أن يثير لحظة الدهشة من خلال صفة واحدة، وهي الإحساس بالجمال، ومن ثم كل مدرسة تغيب قيمة من قيم العمل الفني لتنتصر لقيمة أخرى، التعبيري يختلف عن العمل التجريدي، والتجريدية باتت مسطحات لألوان معينة، أفل الشعور بها، وغير محفز على أنّك تبحث عن تجديد معين، على أساس المدرسة التجريدية، وكيف تبدأ باستخدام ما هو متناول لك من خلال بيئتك وثقافتك ووعيك والضغوط التي تواجهها لتوظّفها في ما بعد بنصوص تجريدية مختلفة من خلال طريقة الأداء والإنتاج ومقومات إنشاء العمل الفني، وتبقى مميزات أعمالي أنني أحاول وأقدم مقترحات جديدة أعتقد أنني أضعها على الطريق الصحيح، وربما تتطور
مستقبلاً.