بعد وقت طويل للغاية

ثقافة 2021/07/29
...

 اسماعيل ابراهيم عبد
 
في لحظة واحدة تجمعت في قبضته سنين طويلة.. طويلة لكونها محيرة.. مهما كانت خبرته في التأليف فلن يضمن احتواءها لذاكرة ولا لتسجيل.. كيف يحسب ذرات الرمل الخشنة والناعمة إن جلدت جلده حتى براء العظم.. كيف يقابل كل حبة رمل بدمعة أمنية، او قطرة ندى في ساقية.
في تلك اللحظة الغريبة أحس أن مئات السنوات مرت واخرى ستمر ولن يلحق بلحظة من هذا النوع.. كانت ابنة جاره ابي كريم مهابة الصورة، طويلة، عينان واسعتان .. تحرس بقرة واحدة.. تملأ جرة واحدة من الشريعة الوحيدة والنهر الوحيد.. قرب النخلة الفريدة..                                                                                                          تحت النخلة الفريدة ظل الليل والنهار بلا وظيفة.. وظلت الجرة تجري من الشاطئ الى الباطن، تجري وتجري وتجر الزمنَ معها حتى هذه اللحظة الفاتنة، المختزلة لتاريخ وجوده الحاسم، وجوده الوجداني، وجوده الساذج. 
في اللحظة البعيدة، العنيدة تلك جرّت جِرارها، إليها، 66 عاما.. إذ اكتشف انها لحظته السعيدة الوحيدة. 
***
دنا منها.. دنت منه اندلقت الجرة بالماء من أعلى الضفة الى عمق القاع.. انقلب معها وانقلبتْ معه حتى سبحا بماء الجرة وماء النهر..
هكذا مرت عدة اشهر، تمتلأُ الجرة وتندلق حتى كاد ان يمسك ساقها ليدلق جرته فوقها، وقف أخوها على طرف الشريعة بعصاه الغليظة.. العصا الغليظة جمعت عظامه الى حزامه، ورأسه الى قدمه.. العصا الغليظة ابعدته عنها 66 عاما.
***
بعد 66 عاما عاد الى ذات الشريعة فتهاوى في قاع نهرها.. تهاوت بحضنه جرة وجرار تدور بين الشاطئ واليم، تكور زلف مبروم كذيل الفرس، التف به، تمسك بآخر شعرات الزلف.. الزلف يصير امرأة جليلة تتمسك بحبل بقرة، لكن البقرة اخذت تعرج من الضفة الى الأعلى فالأعلى حتى صعدت عن الأرض باتجاه السماء، سحبتْ معها المرأة الجليلة، التي سحبت زلفها الجليل والجرة الأثيرة.. سحبوا معهم رجلاً في الثمانين.. طاروا نحو فضاء الروح غير عابئين بما سيحدث على
الأرض. 
***
بعد ان رأى السماء وقف قبالة باب يتجه نحو السماء الثامنة.. كان يحرسه رجل عليه مهاب المعلم.. نظر له كثيراً، تفرس بعينيه عينيه.                                                         
قال له: هل تقابلنا قبل ثمانين عاماً.
أجابه: نعم كنتَ أنتَ صاحب العصا الغليظة، وأنا صاحب العظام النحيفة.
قال له: أتحب ماء الجرار؟
أجابه: نعم لكنني حرمته على نفسي من دون جرتها. 
قال الرجل المهيب كمعلم: إتركْ هذه السماء فما تزال العصا بيدي.
أجابته العظام النحيفة: نحن في سماء لم تخلق بعد!.
قال الرجل المعلم: مع هذا أخرجْ وخذْ روحكَ معكَ! .. مع السلامة.
***
ما إن عادت له روحه حتى حنى جذعه على ضفة النهر الخالدة، فراح يَعُدُّ الرملَ واحدةً، واحدة. 
وَعَدَ روحَهُ ان يظل بين الضفة والقاع أبد الدهر!، لكن طارئاً قد غيّر قناعته هذه، إذ رأى زلفاً ينزل من السماء الى قاع النهر ثم يغور في القاع فتتدفق عبره نبعة ماء لا يسيح ولا يغور ولا يفور.. زلف الماء يموج بين اليابس والهواء، يرسم ضفيرة تشبه شلالاً، والشلال يشبه ذيل حصان جامح. 
بهرته هذه الصورة لكن السن الثمانين ليس مزحة. السن الثمانين تبهرها قفزة جديدة تقابل شلال الزلف!
***
البقرة المعاندة تستعيد حلمها بسكين نبي.. البقرة المجتباة لها جسد لدن مرن يشبه جسد الجليلة ابنة ابي كريم، الأبية الكريمة!.
البقرة حرنت في السماء الثامنة، ثم راحت تجر الزلف مرة إليها، ومرة يزيحها الزلف قليلاً عن السماء الثامنة.
دخل الرجل ذو العظام النحيفة بين البقرة والزلف معطلاً لبعض الوقت مشروعَ الرمل.
لقد جذبته صورة الجرِّ والإزاحة فتأملها بحزن يشبه عتاباً أَمَدَهُ ثمانين عاماً، قرر ان يذبح البقرة ويستخرج المرأة!
***
في لحظة واحدة تجمعت في قبضته سنين طويلة.. طويلة لكونها محيرة.. مهما كانت خبرته في التأليف فلن يضمن احتواءها لذاكرة ولا لتسجيل.. كيف يحسب ذرات الرمل الخشنة والناعمة إن جلدت جلده حتى براء العظم.. كيف يقابل كل حبة رمل بدمعة أُمنية، او قطرة ندى في ساقية..