شعريَّة السرد في رواية ( وكر السلمان) للروائي شلال عنوز

ثقافة 2021/07/29
...

 أ.د. مصطفى لطيف عارف 
يعد السرد فرعا من أصل كبير هو الشعرية القائمة على استنباط القوانين الداخلية للأجناس الأدبية، وحتى وان عدل عن هذا المصطلح الدكتور علي جواد الطاهر إلى مصطلح القصصية بحجة أن مصطلح السردية إذا رفع عنه المقطع (يه) صار لا يعني الفن القصصي إنما صار يعني عنصرا من عناصره أو جزءا من أجزائه حين يتدخل الراوي فيعرض الحادثة، أو يعلق عليها، ويتدخل المؤلف المسرحي ليدل المخرج أو المشاهد على ما لم يكن في النص.
 لقد فتح النقد الأدبي الحديث المجال واسعا أمام هذا المصطلح فاكسبه دلالات أوسع من القص أو الحكي حتى صار يعني كل عمل طابعه الحكي أو الحبك، سواء أكان مكتوبا أم منطوقا أو مرئيا أو مسموعا، أي انه كل عمل تضمن قصة أو رواية بغض النظر عن مظهره التعبيري، وبناء عليه صار السرد يشتمل على القصة والرواية والمسرحية والحكاية الشعبية والأسطورة والحلم والشريط السينمي والنكتة والحزورة والحديث الإذاعي، وغيرها كثير، ويحاول الراوي العليم أن روي لنا صراع الشخصية الداخلية، فنراه يقول: شعرت سناء بالنعاس فألقت برأسها على صدره، كم حسدها على هدوئها وهو يسمع همس أنفاسها كمعزوفة من نقاء، وهي نائمة مطمئنة كيمامة سعيدة بدفء عشها، فضمها بحنان إلى صدره يتنازعه حوار خفي في أن يدعها تنام معه في البيت هذه الليلة ثم يعود بها إلى بغداد، صوت الخير يصارع صوت الشر فيه فالنقيضان في حلبة المصارعة، فمن هو الذي سينتصر
أخيرا. 
وهذا هو المفهوم الذي تتبناه هذه الدراسة – بل إن تودوروف الذي وصل إليه أمر السرد من الشكلانيين الروس ثم أبحاث دي سوسير اللغوية، ومن جاء بعده من الالسنيين، لم يعد لديه الموضوع الحكائي ديدن السرد بل أصبح العالم كله لديه قابلا للسرد، فالفلسفة سرد للفكر الإنساني، وعلم الاقتصاد سرد للحاجة، والندرة المتصارعة مع قانون العرض والطلب، ومن ثم أصبحت كل الأفعال في الوجود تمثل سرد الأنا المنطوية في
العالم. 
ما يميز الروائي عنوز تناول عدة أمكنة، وشخصيات وأحداث متسلسلة، وأزمنة كثيرة، في روايته وكر السلمان لكنها جاءت متناسقة مع لغته السردية المعبرة عن ثقافته الواسعة وشاعريته المتدفقة. 
 درج العرف النقدي، ولاسيما التقليدي على التفريق بين القصة، والشعر، بوصفهما نوعين مختلفين، فالقصة فن نثري يكمن الإبداع فيه في بنيته الحكائية، وطرائق رسم شخصياتها، على حين بني الشعر على نظام لغوي تتراجع فيه الوظيفة اللغوية إلى الوراء، وتكتسب الأبنية اللغوية قيمة مستقلة، وكلما اقترب القصص من شرط الشعر ازدادت دقة كلماته أهمية، وكلما تحرك الشعر صوب السرد قلت أهمية لغته الخاصة، جمع الروائي شلال عنوز بين الشعر، والقص في روايته آنفة الذكر:
 
هنا حيث تستبد بي
مساءات الحنين
ويلتحفني أرق الانتظار 
أنزف انهمارات شوقي
على هذه الورقة البيضاء
 
نود الإشارة هنا إلى نظام المهيمنة الذي قال به الشكلانيون الروس، ويعني بروز احد الأنساق البنائية، وتحكمه بالعناصر الأخرى بوصفه العنصر البؤرة في الأثر الأدبي، فإذا ما قلنا: السرد في القصة، واللغة في الشعر، والحوار في المسرح، فهذا لا يعني وجود عناصر أو انساق بنائية غير ما ذكر في الأجناس الأدبية المشار إليها (القصة-الشعر-المسرح)، إنما هي مهيمنات فرضت حضورها على عناصر اقل حضورا منها في الأجناس المشار
اليها. 
والقصة إذا ما قررت الدخول في الشعر، فإنها تدخل بأدوات الشاعر، وعناصره بوصفها ضيفا مؤدبا على الشعر، ومن ذلك إهمال التفصيلات والميل نحو التكثيف، والإشارة السريعة واللمحة الخاطفة الموحية المتعددة التأويلات، وعدم الاستغراق في وصف أبعاد الشخصيات، وتحديدها، وتفصيلاتها، لان الشعر معني بالوقوف عند انفعالات النفس، أي انه يتحدث عن كوامن الأشياء وانعكاساتها في الذات المنفعلة بها، هذا من جهة القصة. 
أما من جهة الشعر فهو إذا ما قرر استضافة القصة فعليه التنازل عن بعض مميزاته لكي تتمكن القصة من اخذ مكانها المناسب فيه، ومن تلك المميزات اصطباغ الشعر بطابع التقريرية والمنطقية، ولا سيما في الوصف، الأمر الذي يجعل ألفاظه تشير إلى اتجاه واحد هو المباشرة، وهذا يفضي إلى انكماش القدرة الإيحائية لبنيته اللغوية عند حدود الدلالة المعجمية، ومن ثم تقل أهمية اللغة الخاصة به لتصبح اقرب إلى الأسلوب النثري، وانه سيقاوم محاولات القص المتكررة لأخذ النص الشعري إلى الاستغراق بالوصف، ولاسيما تصوير الأشياء من الخارج تصويرا منطقيا مع التركيز على تفصيلاتها، بغية إقناع المتلقي بصدق ما يقال، من هنا جاءت الصعوبة في دمج هذين الفنين المتباعدين في طرائق البناء الفني، إذا لكل منهما اشتراطاته، ومطالبه، وعناصره، الأمر الذي يتطلب أكثر من قدرة الشاعر وأكثر من مقدرة القاص
لدمجهما. 
فالقصيدة بحكم أنها قصيدة لا بد أن تكون شعرا، وبحكم أنها قصة لا بد أن تنقل إلينا قصة في شعر، وقصة في آن واحد، ونسبة متوازنة بين فنية الشعر، وفنية القصة، نلحظ مما تقدم تداخل الفنون الأدبية بعضها مع بعض، وعلى الرغم من استقرار كل فن من الفنون الأدبية بخصائصه، ومميزاته، إلا أن الشعر المعاصر سمح لنفسه الخلط، والدمج بين الفنون، فنراه يقول، حينما قرأ نديم: 
 
مسعورة تصرخ هذه الريح
في كبد بلادي
تراود بكارات
حلم المواسم
بشراهة أسراب الجراد 
تقاتل صبح الفراشات 
 
تميز أسلوب عنوز في (وكر السلمان) بأسلوب يحيل اليوم إلى فن اليوميات أكثر من فن السيرة، فهو يوم ليس ككل الأيام، أو هو احتدام الأيام في دورة زمان قياسية محددة، تتصادم فيها أيام الدكتاتورية مع أيام الاحتلال، وصباحات المنفى مع فجر العودة، ساعات الإحباط بأوقات الأحلام، وخلاصته قوافل أحداث كابوسيه تمتد من الليل إلى الليل، لكن ليل العراق ليس ضاجا بالحياة إلى هذا الحد، بل نراه يسرد لنا المواقف الصعبة التي تمر بها بغداد والنجف، والسماوة وكل مدن العراق  في ظل الاحتلال الغاشم؟ هل هو التباس ميتافيزيقي؟ هل لا سلام للعراقي؟ مجموعة أسئلة طرحها الروائي، وهي التفاتة جميلة منه بربط مأساة العراق في الماضي، والحاضر، والمستقبل.