باسم عبد الحميد حمودي
تزدحم الذاكرة الشعبيَّة العراقيَّة بالكثير من التفاصيل في العادات والتقاليد واللغة والعمارة, وأساليب الحياة الاجتماعيَّة المتعددة في كل منطقة من المناطق.
ومن الصحيح أنَّ فولوكلور الجبل يكاد لا يتطابق مع فولوكلور السهول والصحارى الجنوبيَّة, لكنَّ الأرومة تتداخل, والطيبة هي الغالبة في التعامل الأخلاقي بين الناس, وما يمنحه الجبل من خير في الأعراف والتقاليد يتلقاه السهل بالكثير من الطيبة والسماحة, وإنك لواجد في تفاصيل التاريخ الشعبي ما يشير الى تلك اللحمة بين السهل والجبل, وسنفصل في هذا:
تشير الذاكرة الشعبيَّة التاريخيَّة الى حركة المجاهد الكبير العلامة السيد محمد سعيد الحبوبي عام 1914 للتحرك من النجف الأشرف مع قواته الشعبيَّة الثائرة والزاحفة براً على الجياد والعربات, ونهراً بالزوارق والطرادات والمشاحيف للوصول الى منطقة الشعيبة, وبالتعاون مع القوات العثمانيَّة لمقاومة الغزو البريطاني القادم لاحتلال العراق.
قبل وصول القوات الثائرة الى الشعيبة- وقد استغرق ذلك وقتاً- استراحت القوات القادمة عبر نهر الفرات قرب مدينة السماوة عند جسر بربوتي, وكانت معها القوات الكرديَّة القادمة من شمال الوطن بقيادة الشيخ محمود البرزنجي الحسيني.
كان اللقاء حافلاً جميلاً تبادل فيه الطرفان التحايا وأديا الدبكات المشتركة وكان الحوار بينهما شاملاً حافلاً بالأماني, وهما يرسمان طريق الغد المأمول، طريق استقلال العراق, إنْ لم تستطع القوات العثمانيَّة البقاء.
كل هذا كان جميلاً, لكنَّ المهم عملياً أنْ تطعم هذه الأفواه وتلك مهمة قام بها الشيخ بربوتي السلمان الذي يقع جسر بربوتي في أراضيه. أشرف الشيخ بربوتي مباشرة على تغذبة الجموع الثائرة وإسكانهم قبيل رحيلهم الى جبهة القتال.
وكان السيد هادي السلمان أبرز رجال الحركة العشائريَّة الزاحفة, فهتف (المهوال) هازجاً:
ثلثين الجنة لهادينا
ثم أكمل منشداً:
وثلث الكاكه أحمد وأكراده
وردد الحاضرون الهتاف, بينما رمق الشيخ بربوتي المهوال بنظرة معاتبة غاضبة وهو يشرف على الإطعام والإسكان في أرضه, فتدارك (المهوال) هوسته (اهزوجته) بالقول:
وشوية شويه لبربوتي
وردد المحتفلون الهتاف هازجين وهم يدبكون الأرض وبربوتي باقٍ على عتبه لكنَّ الأحداث أخذت الجميع الى مناحٍ أخرى, كان للسماوة الثائرة وللشيخ بربوتي وجسره الطرف المعلى.
بعد زمنٍ أبعد وقد أضحى العراق مملكة لم ينس الإنكليز دور السماوة ورجالها في الثورة فألحقوها إدارياً بالديوانيَّة التي أصبحت مركزاً للواء (محافظة).
ومثلما بقيت مدينة النجف قضاءً تابعاً الى كربلاء, رغم اتساعها ومكانتها الدينيَّة والثقافيَّة, كانت السماوة كذلك في (عقوبة) إداريَّة ظلت طويلاً زمن العهد الملكي حتى قامت محافظة النجف الأشرف بعد هذا.
متابعو تاريخ الحركة الإداريَّة في العراق منذ زمن العثمانيين والاحتلال البريطاني ثم قيام العهد الملكي سيجدون طرافة في تسميات المدن القياديَّة التي اندرس بعضها مثل (لواء العرجاء)، بينما حفلت الذاكرة الشعبيَّة بتحولات التسميات الخاصة بالمدن, حيث ضاعت تسميات مثل (البغيلة) و(الجعارة) و(سويج الشجر) وحلت تسميات أخرى، للذاكرة الشعبيَّة دورها في التأكيد والترصين والتحويل.