فلسفة الجسد

آراء 2021/07/29
...

 
 علي المرهج
ارتبط مفهوم الجسد في التداول الفلسفي على طول تاريخ الفلسفة التقليدية، بكونه مرتبطا بالملذات والشهوات وكأنه (عورة) لا ينبغي لأحد مدحها، وكأن النفس أو {الروح} هي شيء آخر منفصل عن الجسم، ولكل منهما كيانه الخاص. هكذا صورت لنا الفلسفة التقليدية علاقة الجسد بالنفس، والمرادفة بين الروح والنفس، على قاعدة {قل الروح من أمر ربي}، وهنا يتداخل الفهم الديني مع الفهم الفلسفي التقليدي في تفسير العلاقة بين الجسد والنفس، أو الجسم والروح.
أجد أن كل ما يُذم به الجسد إنما هو مرتبط بوجود الإنسان الأرضي، بل يتشاكلان ويتشابهان، ولا معنى للقبول بمفهوم {المعاد الجسماني} إن لم يكن الجسد هو الذي يُشكل الإحساس بالإثابة أو العقاب، ووفق هذا الفهم، فمعنى الوجود الإنساني في الحياة وما بعدها إنما يتمثل بالجسد، لأنه مكمن الشعور باللذة أو الألم.
قيل لـ {بدنك عليك حق}، وهنا تظهر لنا مفاهيم ثلاثة تتداخل كثيراً، وهي الجسد والجسم والبدن، ولا أرغب بالخوض في التمييز بينها في اللغة، لأنها تتدخل عند الكثير من الفلاسفة والمفكرين، مثل تداخل مفاهيم النفس والروح والعقل.
لقد أكد (ديكارت) فيلسوف العقلانية أن العقل والجسد كلاهما جوهران مستقلان، وقد يؤثر أحدهما بالآخر، ولا أخوض في متبنيات أصحاب {وحدة الوجود} اللذين يماثلان بين الجسد والعقل بوصفهما وجهين لعملة واحدة كما ذهب إلى ذلك (سبينوزا) {الطبيعة الطابعة} و {الطبيعة المطبوعة}، أو بعبارة (ميرلوبونتي) {نحن فكر مُتجسد وكيان في العالم}.
في المقابل هناك من عدّ الجسد أو (المادة) هي أصل الوجود، وما النفس والعقل والروح غير الطاقة الحيوية لهذه المادة، فالجوهر هو "المادة" أو الجسد.
لم يكن عقل سقراط فيلسوف الفكر المدافع عن أولوية العقل عن الجسد، قد مكنه من تحرير عقله بمعزل عن لحظة إعدامه، لتختم حياته الفكرية بمجرد موت جسده.
لا أعرف كيف يُمكن لنا أن نعيش في الحياة بالفكر وحده، فخذ مثلاً العلاقة الزوجية، التي تكاد تكون علاقة ضرورية في استمرارية الوجود، ستجد أن الجسد هو سبب استمرارها، والعقل إنما عامل مساعد في ترميم هذه العلاقة أو تهديمها.
واحدة من نقودات (نيتشه) المهمة للفلسفة التقليدية بشكل عام واليونانية بشكل خاص، هو هذا التمييز بين النفس والجسد، الذي لا يراه تمييزاً له مصداق في الحياة والفكر الذي نعرف، إذ يؤكد أنه يعرف جسده (حق المعرفة)، ولكنه لا يعرف روحه، هذا المفهوم الذي ينتمي للتفكير في ما وراء الميتافيزيقا، ولا قدرة لنا لحدّه أو تعريفه.
إنه تفكير المتيم بدخول عالم الماوراء، ويكره حياته، لأنه لا يعيشها كما ينبغي على قاعدة {أن لبدنك عليك حق} فتجده يعيش لأجل {الحياة ما بعد الموت} ولا يعيش الحياة نفسها!.
الجسد عند (نيتشه) هو الذي يمنح الإنسان {إرادة القوة} الذي سعى فيه لإعادة الحياة لـ {ديونيزيوس} المثال الأميز للتعبير عن الحياة وإعادة انتاج النشوة فيها خارج سطوة العقل وممارسته الوصاية على الجسد، لأن الحياة التي ينبغي أن تُعاش هي الحياة التي يكون فيها الجسد مصدر القوة والبهجة معاً، لذلك ابتكر لنا مفهوم "انقلاب القيم"، ويقصد بها قيم الخنوع والضعف والركون للميتافيزيقا، لذا نجده في كتابه {أفول الأصنام" يدافع عن كل الذين أنتجوا من القوة حياة جديدة قلبوا من خلالها القيم السابقة لإنتاج قيم "الإنسان الأرضي الفائق" القادر على خلق عالمه الذي يختاره هو، بمعزل عن وصاية العقلانيين والروحانيين الذين يتحدثون كثيراً عن المعاناة البشرية وهم يعيشون في أبراج عاجية فكرية أو حياتية.